الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا ) : لما رد على اليهود في إنكارهم التوجه إلى الكعبة ، وكانت الكعبة بناء إبراهيم أبيهم ، كانوا أحق بتعظيمها ، لأنها من مآثر أبيهم . ولوجه آخر من إظهار فضلها ، وهو كونها مثابة للناس وأمنا ، وأن فيها مقام إبراهيم ، وأنه تعالى أوحى إليه وإلى ولده ببنائها وتطهيرها ، وجعلها محلا للطائف والعاكف والراكع والساجد ، وأمره بأن ينادي في الناس بحجها . والبيت هنا : الكعبة ، على قول الجمهور . وقيل : المراد البيت الحرام لا نفس الكعبة ; لأنه وصفه بالأمن ، وهذه صفة جميع الحرم ، لا صفة الكعبة فقط . ويجوز إطلاق البيت ، ويراد به كل الحرم . وأما الكعبة فلا تطلق إلا على البناء الذي يطاف به ، ولا تطلق على كل الحرم . والتاء في مثابة " للمبالغة ، لكثرة من يثوب إليه ، قاله [ ص: 380 ] الأخفش ، أو لتأنيث المصدر ، أو لتأنيث البقعة ، كما يقال مقام ومقامة ، قال الشاعر :


ألم تر أن الأرض رحب فسيحة فهل يعجزني بقعة من بقاعها



ذكر رحبا على مراعاة المكان ، وأنث فسيحة على اللفظ . وقرأ الأعمش وطلحة : " مثابات " على الجمع ، وقال ورقة بن نوفل :


مثابا لأفناء القبائل كلها     تخب إليها اليعملات الطلائح



ويروى : الذوابل . ووجه قراءة الجمع أنه مثابة لكل من الناس ، لا يختص به واحد منهم ، سواء العاكف فيه والباد . و " مثابة " ، قال مجاهد وابن جبير معناه : يثوبون إليه من كل جانب ، أي يحجونه في كل عام فهم يتفرقون ، ثم يثوبون إليه أعيانهم أو أمثالهم ، ولا يقضي أحد منهم وطرا ، وقال الشاعر :


جعل البيت مثابا لهم     ليس منه الدهر يقضون الوطر



وقال ابن عباس : معاذا وملجأ . وقال قتادة والخليل : مجمعا . وقال بعض أهل اللغة ، فيما حكاه الماوردي : أي مكان إثابة : واحدة من الثواب ، وأورد هذا القول ابن عطية احتمالا منه . والألف واللام في قوله للناس : إما لاستغراق الجنس على مذهب من يرى أن الناس كلهم مخاطبون بفروع الإيمان ، وإما للجنس الخاص على مذهب من لا يرى ذلك . وجعلنا هنا بمعنى صيرنا ، فمثابة مفعول ثان . وقيل : جعل هنا بمعنى : خلق أو وضع ، ويتعلق للناس بمحذوف تقديره : مثابة كائنة ، إذ هو في موضع الصفة . وقيل : يتعلق بلفظ جعلنا ، أي لأجل الناس . والأمن : مصدر جعل البيت إياه على سبيل المبالغة لكثرة ما يقع به من الأمن ، أو على حذف مضاف ، أي ذا أمن ، أو على أنه أطلق على اسم الفاعل مجازا ، أي آمنا ، كما قال تعالى : ( اجعل هذا البلد آمنا ) ، وجعله آمنا ، اختلفوا : هل ذلك في الدنيا أو في الآخرة ؟ فمن قال : إنه في الدنيا ، فقيل معناه : أن الناس كانوا يقتتلون ، ويغير بعضهم على بعض حول مكة ، وهي آمنة من ذلك ، ويلقى الرجل قاتل أبيه فلا يهيجه ; لأنه تعالى جعل لها في النفوس حرمة ، وجعلها أمنا للناس والطير والوحش ، إلا الخمس الفواسق ، فخصصت من ذلك على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وأما من أحدث حدثا خارج الحرم ثم أتى الحرم ، ففي أمنه من أن يهاج ، فيه خلاف مذكور في الفقه . وقيل معناه : إنه آمن لأهله ، يسافر أحدهم الأماكن البعيدة فلا يروعه أحد . وقيل : معناه : إنه يؤمن من أن يحول الجبابرة بينه وبين من قصده . ومن قال هذا الأمن في الآخرة ، قيل من المكر عند الموت . وقيل : من عذاب النار . وقيل : من بخس ثواب من قصده ، قال قوم : وهذا الأمن مختص بالبيت . وقيل : يشمل البيت والحرم . وقال في ري الظمآن معناه : ذا أمن لقاطنيه من أن يجري عليهم ما يجري على سكان البوادي وسائر بلدان العرب . والظاهر أن قوله : وأمنا ، معطوف على قوله : مثابة ، ويفسر الأمن بما تقدم ذكره . وذهب بعضهم إلى أن المعنى على الأمر ، التقدير : واجعلوه آمنا ، أي جعلناه مثابة للناس ، فاجعلوه آمنا لا يتعدى فيه أحد على أحد . فمعناه أن الله أمر الناس أن يجعلوا ذلك الموضع آمنا من الغارة والقتل ، وكان البيت محرما بحكم الله ، وربما يؤيد هذا التأويل بقراءة من قرأ : واتخذوا على الأمر ، فعلى هذا يكون العطف فيه من عطف الجمل ، عطفت فيه الجملة الأمرية على جملة خبرية ، وعلى القول الظاهر يكون من عطف المفردات .

التالي السابق


الخدمات العلمية