الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأضاءت : قيل متعد وقيل لازم ومتعد ، قالوا : وهو أكثر وأشهر ، فإذا كان متعديا كانت الهمزة فيه للنقل ، إذ يقال : ضاء المكان ، كما قال العباس بن عبد المطلب في النبي - عليه الصلاة والسلام - :


وأنت لما ولدت أشرقت الأر ض وضاءت بنورك الأفق



والفاعل إذ ذاك ضمير النار ، وما مفعولة ، وحوله صلة معمولة لفعل محذوف لا نكرة موصوفة ، وحوله صفة لقلة استعمال ما نكرة موصوفة ، وقد تقدم لنا الكلام في ذلك ، أي فلما أضاءت النار المكان الذي حوله ، وإذا كان لازما فقالوا : إن الضمير في أضاءت للنار ، وما زائدة ، وحوله ظرف معمول للفعل ، ويجوز أن يكون الفاعل ليس ضمير النار ، وإنما هو ما الموصولة وأنث على المعنى ، أي : فلما أضاءت الجهة التي حوله ، كما أنثوا على المعنى في قولهم : ما جاءت حاجتك . وقد ألم الزمخشري بهذا الوجه ، وهذا أولى مما ذكروه لأنه لا يحفظ من كلام العرب : جلست ما مجلسا حسنا ، ولا قمت ما يوم الجمعة ، والحمل على [ ص: 79 ] المعنى محفوظ ، كما ذكرناه ، ولو سمع زيادة في ما نحو هذا ، لم يكن ذلك من مواضع اطراد زيادة ما ، والأولى في الآية بعد ذلك أن يكون أضاءت متعدية ، فلا تحتاج إلى تقدير زيادة ، ولا حمل على المعنى .

وقرأ ابن السميفع وابن أبي عبلة : فلما أضاءت ، ثلاثيا فيتخرج على زيادة ما وعلى أن تكون هي الفاعلة ، إما موصولة وإما موصوفة ، كما تقدم ، ولما جوابها : ( ذهب الله بنورهم ) ، وجمع الضمير في : بنورهم حملا على معنى الذي ، إذ قررنا أن المعنى كالجمع الذي استوقد ، أو على ذلك المحذوف الذي قدره بعضهم ، وهو كمثل أصحاب الذي استوقد ، وأجازوا أن يكون جواب لما محذوفا لفهم المعنى ، كما حذفوه في قوله : ( فلما ذهبوا به وأجمعوا ) ، الآية . قال الزمخشري : وإنما جاز حذفه لاستطالة الكلام مع أمن الإلباس الدال عليه ، انتهى . وقوله : لاستطالة الكلام غير مسلم لأنه لم يستطل الكلام ؛ لأنه قدره خمدت ، وأي استطالة في قوله : ( فلما أضاءت ما حوله ) ، خمدت ؟ بل هذا لما وجوابها ، فلا استطالة بخلاف قوله : ( فلما ذهبوا به ) ، فإن الكلام قد طال بذكر المعاطيف التي عطفت على الفعل وذكر متعلقاتها بعد الفعل الذي يلي لما ، فلذلك كان الحذف سائغا لاستطالة الكلام . وقوله : مع أمن الإلباس ، وهذا أيضا غير مسلم ، وأي أمن إلباس في هذا ولا شيء يدل على المحذوف ؟ بل الذي يقتضيه ترتيب الكلام وصحته ووضعه مواضعه أن يكون ( ذهب الله بنورهم ) هو الجواب ، فإذا جعلت غيره الجواب مع قوة ترتب ذهاب الله بنورهم على الإضاءة ، كان ذلك من باب اللغز ، إذ تركت شيئا يبادر إلى الفهم وأضمرت شيئا يحتاج في تقديره إلى وحي يسفر عنه ، إذ لا يدل على حذفه اللفظ مع وجود تركيب ( ذهب الله بنورهم ) . ولم يكتف الزمخشري بأن جوز حذف هذا الجواب حتى ادعى أن الحذف أولى ، قال : وكان الحذف أولى من الإثبات ، لما فيه من الوجازة مع الإعراب عن الصفة التي حصل عليها المستوقد بما هو أبلغ للفظ في أداء المعنى ، كأنه قيل : فلما أضاءت ما حوله خمدت ، فبقوا خابطين في ظلام ، متحيرين متحسرين على فوت الضوء ، خائبين بعد الكدح في إحياء النار ، انتهى . وهذا الذي ذكره نوع من الخطابة لا طائل تحتها ؛ لأنه يمكن له ذلك لو لم يكن يلي قوله : (فلما أضاءت ما حوله ) ، قوله : ( ذهب الله بنورهم ) . وأما ما في كلامه بعد تقدير خمدت إلى آخره ، فهو مما يحمل اللفظ ما لا يحتمله ، ويقدر تقادير وجملا محذوفة لم يدل عليها الكلام ، وذلك عادته في غير ما كلام في معظم تفسيره ، ولا ينبغي أن يفسر كلام الله بغير ما يحتمله ، ولا أن يزاد فيه ، بل يكون الشرح طبق المشروح من غير زيادة عليه ولا نقص منه . ولما جوزوا حذف الجواب تكلموا في قوله تعالى : ( ذهب الله بنورهم ) ، فخرجوا ذلك على وجهين : أحدهما : أن يكون مستأنفا جواب سؤال مقدر كأنه قيل : ما بالهم قد أشبهت حالهم حال هذا المستوقد ؟ فقيل : ذهب الله بنورهم . والثاني : أن يكون بدلا من جملة التمثيل على سبيل البيان ، قالهما الزمخشري ، وكلا الوجهين مبنيان على أن جواب لما محذوف ، وقد اخترنا غيره وأنه قوله تعالى : ( ذهب الله بنورهم ) ، والوجه الثاني من التخريجين اللذين تقدم ذكرهما ، وهو أن يكون قوله : ( ذهب الله بنورهم ) بدلا من جملة التمثيل على سبيل البيان ، لا يظهر في صحته ؛ لأن جملة التمثيل هي قوله : ( مثلهم كمثل الذي استوقد نارا ) ، فجعله ( ذهب الله بنورهم ) بدلا من هذه الجملة على سبيل البيان لا يصح ؛ لأن البدل لا يكون في الجمل إلا إن كانت الجملة فعلية تبدل من جملة فعلية ، فقد ذكروا جواز ذلك . أما أن تبدل جملة فعلية من جملة اسمية فلا أعلم أحدا أجاز ذلك ، والبدل على نية تكرار العامل . والجملة الأولى لا موضع لها من الإعراب لأنها لم تقع موقع المفرد ، فلا يمكن أن تكون الثانية على نية تكرار العامل ، إذ لا عامل في الأولى فتكرر في الثانية فبطلت جهة البدل فيها ، ومن جعل الجواب محذوفا جعل الضمير في بنورهم عائدا على المنافقين . والباء في بنورهم للتعدية ، وهي إحدى المعاني الأربعة عشر التي تقدم أن الباء تجيء لها ، وهي عند جمهور [ ص: 80 ] النحويين ترادف الهمزة . فإذا قلت : خرجت بزيد ، فمعناه أخرجت زيدا ، ولا يلزم أن تكون أنت خرجت ، وذهب أبو العباس إلى أنك إذا قلت : قمت بزيد ، دل على أنك قمت وأقمته ، وإذا قلت : أقمت زيدا ، لم يلزم أنك قمت ، ففرق بين الباء والهمزة في التعدية . وإلى نحو من مذهب أبي العباس ذهب السهيلي ، قال : تدخل الباء ، يعني المعدية ، حيث تكون من الفاعل بعض مشاركة للمفعول في ذلك الفعل نحو : أقعدته ، وقعدت به ، وأدخلته الدار ، ودخلت به ، ولا يصح هذا في مثل : أمرضته ، وأسقمته . فلا بد إذن من مشاركة ولو باليد إذا قلت : قعدت به ، ودخلت به . ورد على أبي العباس بهذه الآية ونحوها . ألا ترى أن المعنى أذهب الله نورهم ؟ ألا ترى أن الله لا يوصف بالذهاب مع النور ؟ قال بعض أصحابنا : ولا يلزم ذلك أبا العباس ، إذ يجوز أن يكون الله وصف نفسه بالذهاب على معنى يليق به ، كما وصف نفسه تعالى بالمجيء في قوله : ( وجاء ربك ) ، والذي يفسد مذهب أبي العباس من التفرقة بين الباء والهمزة قول الشاعر :


ديار التي كانت ونحن على منى     تحل بنا لولا نجاء الركائب



أي تحلنا ، ألا ترى أن المعنى تصيرنا حلالا غير محرمين ، وليست تدخل معهم في ذلك لأنها لم تكن حراما ، فتصير حلالا بعد ذلك ؟ ولكون الباء بمعنى الهمزة لا يجمع بينهما ، فلا يقال : أذهبت بزيد ، ولقوله تعالى : ( تنبت بالدهن ) ، في قراءة من جعله رباعيا تخريج يذكر في مكانه ، إن شاء الله - تعالى - . ولباء التعدية أحكام غير هذا ذكرت في النحو . وقرأ اليماني : أذهب الله نورهم ، وهذا يدل على مرادفة الباء للهمزة ، ونسبة الإذهاب إلى الله - تعالى - حقيقة ، إذ هو فاعل الأشياء كلها . وفي معنى : ( ذهب الله بنورهم ) ثلاثة أقوال : قال ابن عباس : هو مثل ضرب للمنافقين ، كانوا يعتزون بالإسلام ، فناكحهم المسلمون ووارثوهم وقاسموهم الفيء ، فلما ماتوا سلبهم الله العز ، كما سلب موقد النار ضوءه ، ( وتركهم في ظلمات ) ، أي في عذاب . الثاني : إن ذهاب نورهم بإطلاع الله المؤمنين على كفرهم ، فقد ذهب منهم نور الإسلام بما أظهر من كفرهم . الثالث : أبطل نورهم عنده ، إذ قلوبهم على خلاف ما أظهروا ، فهم كرجل أوقد نارا ثم طفئت فعاد في ظلمة . وهذه الأقوال إنما تصح إذا كان الضمير في بنورهم عائدا على المنافقين ، وإن عاد على المستوقدين ، فذهاب النور هو إطفاء النار التي أوقدوها ، ويكون بأمر سماوي ليس لهم فيه فعل ، فلذلك قال الضحاك : لما أضاءت النار أرسل الله عليها ريحا عاصفا فأطفأها ، وهذا التأويل يأتي على قول من قال : إنها نار حقيقة أوقدها أهل الفساد ليتوصلوا بها وبنورها إلى فسادهم وعبثهم ، فأخمد الله نارهم وأضل سعيهم ، وأما إذا قلنا : إن ذكر النار هنا مثل لا حقيقة لها ، وإن المراد بها نار العداوة والحقد ، فإذهاب الله لها دفع ضررها عن المؤمنين . وإذا كانت النار مجازية ، فوصفها بالإضاءة ما حول المستوقد هو من مجاز الترشيح ، وقد تقدم الكلام فيه . وإذهاب النور أبلغ من إذهاب الضوء لاندراج الأخص في نفي الأعم ، لا العكس . فلو أتى بضوئهم لم يلزم ذهاب النور . والمقصود إذهاب النور عنهم أصلا ، ألا ترى كيف عقبه بقوله : ( وتركهم في ظلمات ) ؟ وإضافة النور إليهم من باب الإضافة بأدنى ملابسة ، إذ إضافته إلى النار هو الحقيقة ، لكن مما كانوا ينتفعون به صح إضافته إليهم .

وقرأ الجمهور : في ظلمات بضم اللام ، وقرأ الحسن وأبو السماك بسكون اللام ، وقرأ قوم بفتحها . وهذه اللغى الثلاث جائزة في جمع فعلة .

الاسم الصحيح العين غير المضعف ولا المعل اللام بالتاء . فإن اعتلت بالياء نحو : كلية ، امتنعت الضمة ، أو كان مضعفا نحو : درة ، أو معتل العين نحو : سورة ، أو وصفا نحو : بهمة ، امتنعت الفتحة والضمة . وقرأ قوم : إن ظلمات ، بفتح اللام ، جمع ظلم ، الذي هو جمع ظلمة . فظلمات على هذا جمع جمع ، والعدول إلى الفتح تخفيفا أسهل من ادعاء جمع الجمع ؛ لأن العدول إليه قد جاء في نحو : كسرات جمع كسرة [ ص: 81 ] جوازا ، وإليه في نحو : جفنة وجوبا . وفعلة وفعلة أخوات ، وقد سمع فيها الفتح بالقيود التي تقدمت ، وجمع الجمع ليس بقياس ، فلا ينبغي أن يصار إليه إلا بدليل قاطع . وقرأ اليماني : في ظلمة ، على التوحيد ليطابق بين إفراد النور والظلمة وقراءة الجمع ؛ لأن كل واحد له ظلمة تخصه ، فجمعت لذلك . وحيث وقع ذكر النور والظلمة في القرآن جاء على هذا المنزع من إفراد النور وجمع الظلمات . وسيأتي الكلام على ذلك ، إن شاء الله . ونكرت الظلمات ولم تضف إلى ضمير هم كما أضيف النور اكتفاء بما دل عليه المعنى من إضافتها إليهم من جهة المعنى واختصار اللفظ ، وإن كان ترك متعديا لواحد فيحتمل أن يكون : في ظلمات ، في موضع الحال من المفعول ، فيتعلق بمحذوف ، ولا يبصرون : في موضع الحال أيضا ، إما من الضمير في تركهم وإما من الضمير المستكن في المجرور فيكون حالا متداخلة ، وهي في التقديرين حال مؤكدة . ألا ترى أن من ترك في ظلمة لزم من ذلك أنه لا يبصر ؟ وإن كان ترك مما يتعدى إلى اثنين كان في ظلمات في موضع المفعول الثاني ، ولا يبصرون جملة حالية ، ولا يجوز أن يكون في ظلمات في موضع الحال ، ولا يبصرون جملة في موضع المفعول الثاني ، وإن كان يجوز ظننت زيدا منفردا لا يخاف ، وأنت تريد ظننت زيدا في حال انفراده لا يخاف ؛ لأن المفعول الثاني أصله خبر لمبتدأ ، وإذا كان كذلك فلا يأتي الخبر على جهة التأكيد ، إنما ذلك على سبيل بعض الأحوال لا الأخبار . فإذا جعلت في ظلمات في موضع الحال كان قد فهم منها أن من هو في ظلمة لا يبصر ، فلا يكون في قوله لا يبصرون من الفائدة إلا التوكيد ، وذلك لا يجوز في الأخبار . ألا ترى إلى تخريج النحويين قول امرئ القيس :


إذا ما بكى من خلفها انحرفت له     بشق وشق عندنا لم يحول



على أن وشق مبتدأ وعندنا في موضع الخبر ، ولم يحول جملة حالية أفادت التأكيد ، وجاز الابتداء بالنكرة لأنه موضع الخبر ؛ لأنه يؤدي إلى مجيء الخبر مؤكدا ؛ لأن نفي التحويل مفهوم من كون الشق عنده ، فإذا استقر عنده ثبت أنه لم يحول عنه . قال ابن عباس : والظلمات هنا العذاب ، وقال مجاهد : ظلمة الكفر ، وقال قتادة : ظلمة يلقيها الله عليهم بعد الموت ، وقال السدي : ظلمة النفاق ، ولم يذكر مفعول لا يبصرون ، ولا ينبغي أن ينوى ؛ لأن المقصود نفي الإبصار عنهم لا بالنسبة إلى متعلقه .

التالي السابق


الخدمات العلمية