الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                          باب

                                                                                                                          التأويل في الحلف

                                                                                                                          ومعنى التأويل : أن يريد بلفظه ما يخالف ظاهره فإن كان الحالف ظالما ، لم ينفعه تأويله ؛ لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يمينك على ما يصدقك به صاحبك فإذا أكلا تمرا ، فحلف : لتخبرني بعدد ما أكلت ، أو لتميزن نوى ما أكلت ، فإنها تفرد كل نواة وحدها ، وتعد من واحد إلى عدد يتحقق دخول ما أكل فيه ، وإن حلف ليقعدن على بارية في بيته ، ولا تدخله بارية ، فإنه يدخل قصبا وينسجه فيه .

                                                                                                                          وإن حلف ليطبخن قدرا برطل ملح ويأكل منه فلا يجد طعم الملح ، فإنه يسلق فيه بيضا ، وإن حلف لا يأكل بيضا ولا تفاحا ، وليأكلن مما في هذا الوعاء ، فوجده بيضا وتفاحا ، فإنه يعمل من البيض ناطفا ، ومن التفاح شرابا .

                                                                                                                          وإن كان على سلم ، فحلف : لا صعدت إليك ، ولا نزلت إلى هذه ، ولا أقمت مكاني ساعة ، فلتنزل العليا ، ولتصعد السفلى ، فتنحل يمينه ، وإن حلف : لا أقمت عليه ، ولا نزلت منه ، ولا صعدت فيه ، فإنه ينتقل إلى سلم آخر ، وإن حلف : لا أقمت في هذا الماء ، ولا خرجت منه ، فإن كان جاريا لم يحنث ، إذا نوى ذلك الماء بعينه ، وإن كان واقفا ، حمل منه مكرها .

                                                                                                                          وإن استحلفه ظالم : ما لفلان عندك وديعة ؛ ، وكانت له عنده وديعة ، فإنه يعني بـ " ما " : الذي ، ويبر في يمينه .

                                                                                                                          وإن حلف : ما فلان هاهنا ، وعنى موضعا معينا - بر في يمينه ، وإن حلف على امرأته : لا سرقت مني شيئا ، فخانته في وديعته - لم يحنث ، إلا أن ينوي .

                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                          باب

                                                                                                                          التأويل في الحلف

                                                                                                                          ( ومعنى التأويل : أن يريد بلفظه ما يخالف ظاهره ) مثل أن يحلف أنه أخي يريد أخوة الإسلام ، وبالسقف والبناء : السماء ، وبالبساط والفراش : الأرض ، وبالأوتاد : الجبال ، وباللباس : الليل ، أو يقول : ما رأيت فلانا ، أي : ما ضربت رئته ، وما ذكرته ، أي : ما قطعت ذكره ، وكقوله : جواري أحرار ، يعني : سفنه ، ونسائي طوالق ، أي : أقاربه ، أو يقول : ما كاتبت فلانا ، ولا عرفته ، ولا علمته ، ولا سألته حاجة ، ولا أكلت له دجاجة ولا فروجة ، ولا شربت له ماء ، ولا في بيتي فراش ، ولا حصير ، ولا بارية ، ويعني بالمكاتبة : مكاتبة الرقيق ، وبالتعريف : جعله عريفا ، وبالإعلام : جعله أعلم الشفة ، والحاجة : الشجرة الصغيرة ، والدجاجة : الكبة من الغزل ، والفروجة : الدراعة ، والفرش : صغار الإبل ، والحصير : الجيش ، والبارية : السكين التي يبرى بها ، فهذا وأشباهه مما يسبق إلى فهم السامع خلافه ، إذا عناه بيمينه فهو تأويل ؛ لأنه خلاف الظاهر .

                                                                                                                          [ ص: 375 ] ( فإن كان الحالف ظالما ، لم ينفعه تأويله ) بغير خلاف نعلمه ( لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يمينك على ما يصدقك به صاحبك ) وفي لفظ : اليمين على نية المستحلف رواهما مسلم ، وعلم منه أنه إذا كان مظلوما فله تأويله ، نص عليه ، لحديث سويد بن حنظلة قال : خرجنا نريد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعنا وائل بن حجر ، فأخذه عدو له ، فتحرج القوم أن يحلفوا ، فحلفت أنه أخي ، فخلي سبيله ، فأتينا النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكرنا له ذلك ، فقال : كنت أبرهم وأصدقهم ، المسلم أخو المسلم رواه أبو داود ، .

                                                                                                                          وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب رواه الترمذي ، قال محمد بن سيرين : الكلام أوسع من أن يكذب ظريف ، خص الظريف بذلك ، يعني به : الكيس الفطن ، فإنه يفطن التأويل ، فلا حاجة إلى الكذب ، فإن كان لا ظالما ولا مظلوما ، فظاهر كلام أحمد : أن له تأويله ؛ لأنه - عليه السلام - كان يمزح ولا يقول إلا حقا ومزاحه أن يوهم السامع بكلامه غير ما عناه ، وهو التأويل ، فقال - عليه السلام - لعجوز : لا تدخل الجنة عجوز يعني : أن الله تعالى ينشئهن أبكارا عربا أترابا .



                                                                                                                          مسائل : الأولى : إذا حلف ليقسمن بين ثلاث نسوة ثلاثين قارورة ، عشر مملوءة ، وعشر فرغ ، وعشر منصف ، قلب كل منصفة في أخرى ، فلكل واحدة خمس مملوءة ، وخمس فرغ .

                                                                                                                          الثانية : إذا كان له ثلاثون نعجة ، عشر ولدت كل واحدة سخلة ، وعشر اثنتين ، وعشرة ثلاثا ، وحلف ليجعلن لكل امرأة ثلاثا ، ولا يفرق بين سخلة وأمها ، أعطى الكبرى عشرة نتجت عشرين ، والوسطى نصف ما نتج سخلة ، [ ص: 376 ] ونصف ما نتج ثلاثا بسخالها ، وكذا الصغرى .

                                                                                                                          الثالثة : إذا حلف أنه رأى ثلاث إخوة لأبوين ، أحدهم عبد ، والآخر مولى ، والآخر عربي ، لا ولاء عليه ، هذا رجل تزوج بأمة ، فولدت ابنا فهو عبد ، ثم كوتبت ، فأدت وهي حامل ، فأتت بابن فتبعها ، فهو مولى ، ثم ولدت بعد الأداء ابنا ، فهو عربي بلا ولاء .

                                                                                                                          الرابعة : إذا حلف أن خمسة زنوا بامرأة ، فلزم الأول القتل ، والثاني الرجم ، والثالث الجلد ، والرابع نصف الحر ، ولم يلزم الخامس شيء ، فالأول ذمي ، والثاني محصن ، والثالث بكر ، والرابع عبد ، والخامس حربي .

                                                                                                                          الخامسة : إذا حلف ليخبرنه بشيء رأسه في عذاب ، وأسفله في شراب ، وأوسطه في طعام ، وحوله سلاسل وأغلال ، وحبسه في بيت ضيق ، فهو فتيلة القنديل .

                                                                                                                          السادسة : إذا حلف أنه يحب الفتنة ، ويكره الحق ، ويشهد بما لم يره وهو بصير ، ولا يخاف من الله ، ولا رسول الله ، وهو مؤمن عدل - فجوابه : أنه يحب المال والولد ، ويكره الموت ، ويشهد بالغيب والحساب ، ولا يخاف من الله ولا رسوله الظلم والجور .

                                                                                                                          السابعة : لو سئل عن طعم نجو الآدمي ، قيل : إنه - أولا - حلو لسقوط الذباب عليه ، ثم حامض لأنه يدود ، ثم مر لأنه يلدح .

                                                                                                                          ( فإذا أكلا تمرا ، فحلف : لتخبرني بعدد ما أكلت ، أو لتميزن نوى ما أكلت ، فإنها تفرد كل نواة وحدها ، وتعد من واحد إلى عدد يتحقق دخول ما أكل فيه ) ولا يحنث إذا كان نيته ذلك ، وإن نوى الإخبار بكميته من غير زيادة ولا نقص [ ص: 377 ] لم يبرأ إلا بذلك ، وإن أطلق ، فقياس المذهب أنه كذلك ؛ لأن الأيمان تنبني على المقاصد ، إلا أن تكون حيلة فيحنث .

                                                                                                                          فرع : لو كان في فيها تمرة ، فقال : أنت طالق إن أكلتها ، أو ألقيتها ، أو أمسكتها ، فأكلت بعضها ، وألقت بعضها - انبنى على فعل عليه .

                                                                                                                          ( وإن حلف ليقعدن على بارية في بيته ، ولا تدخله بارية ، فإنه يدخل قصبا وينسجه فيه ) ويجلس عليها في البيت ، ولا يحنث ؛ لأنه لم يدخله بارية ، وإنما أدخله قصبا . وفي " المحرر " : وإن حلف لا يدخل بيته بارية ، فأدخل قصبا لذلك ، فنسجت فيه - حنث ، وإن طرأ قصده والقصب فيها فوجهان ( وإن حلف ليطبخن قدرا برطل ملح ويأكل منه فلا يجد طعم الملح ، فإنه يسلق فيه بيضا ) ؛ لأن الصفة وجدت لكون أن الملح لا يدخل في البيض .

                                                                                                                          ( وإن حلف لا يأكل بيضا ولا تفاحا ، وليأكلن مما في هذا الوعاء ، فوجده بيضا وتفاحا ، فإنه يعمل من البيض ناطفا ، ومن التفاح شرابا ) ويأكل منه بغير حنث ؛ لأن ذلك ليس ببيض ولا تفاح ، وقيل : يحنث مع التعيين .

                                                                                                                          ( وإن كان على سلم ، فحلف : لا صعدت إليك ، ولا نزلت إلى هذه ، ولا أقمت مكاني ساعة ، فلتنزل العليا ، وتصعد السفلى ، فتنحل يمينه ) ؛ لأن ما فعله سبب إلى عدم حنثه ، وأما كونه تنحل يمينه ، فلأنه لم يبق حنثه ممكنا لزوال الصورة المحلوف عليها .

                                                                                                                          ( وإن حلف : لا أقمت عليه ، ولا نزلت منه ، ولا صعدت فيه ، فإنه ينتقل [ ص: 378 ] إلى سلم آخر ) فتنحل يمينه ؛ لأنه إنما نزل أو صعد من غيره .

                                                                                                                          ( وإن حلف : لا أقمت في هذا الماء ، ولا خرجت منه ، فإن كان جاريا لم يحنث ) ؛ لأن الماء المحلوف عليه جرى ، وصار في غيره ، فلم يحنث ، سواء أقام أو خرج ؛ لأنه إنما يقف في غيره أو يخرج منه ، ذكره القاضي في " المجرد " ؛ لأن الأيمان تنبني على اللفظ لا على القصد ، وقال في موضع آخر : قياس المذهب أنه لا يحنث ( إذا نوى ذلك الماء بعينه ) ؛ لأن ذلك الماء بعينه يصدق أنه ما أقام فيه ولا خرج منه ضرورة كونه جاريا ، فلم تحصل المخالفة في المحلوف عليه ( وإن كان واقفا ، حمل منه مكرها ) لئلا ينسب إليه فعل .



                                                                                                                          فرع : إذا حلف : لا لبست أنت هذا القميص ، ولا وطئتك إلا فيه ، فلبسته ووطئها - لم يحنث .

                                                                                                                          وإن حلف ليجامعن على رأس رمح ، فنقب السقف ، وأخرج منه رأس الرمح يسيرا ، وجامع عليه - بر في الأشهر .

                                                                                                                          ( وإن استحلفه ظالم : ما لفلان عندك وديعة ؛ ، وكانت له عنده وديعة ، فإنه يعني بـ " ما " : الذي ) أي : الموصولة ، أو ينوي غير الوديعة ، أو غير مكانها ، أو يستثنى بقلبه ( ويبر في يمينه ) ؛ لأنه صادق .



                                                                                                                          مسألة : إذا حلف لتصدقني : هل سرقت مني شيئا أم لا ؛ وخافت أن تصدقه ، فتقول : سرقت منك ، ما سرقت منك ، وتعني بـ " ما " : الذي .

                                                                                                                          ( وإن حلف له : ما فلان هاهنا ، وعنى موضعا معينا - بر في يمينه ) لصدقه في ذلك ، وروي أن مهنا والمروذي كانا عند أحمد ، فجاء رجل يطلب المروذي ، ولم يرد المروذي أن [ ص: 379 ] يكلمه ، فوضع مهنا إصبعه في كفه ، وقال : ليس المروذي هاهنا ، يريد : ليس هو في كفه ، فلم ينكره أحمد .

                                                                                                                          ( وإن حلف على امرأته : لا سرقت مني شيئا ، فخانته في وديعته - لم يحنث ) ؛ لأن الخيانة ليست بسرقة ( إلا أن ينوي ) ذلك ، فيحنث ؛ لأن اللفظ صالح أن يراد به ذلك ، وقد نواه ، فوجب الحنث ضرورة المخالفة في المحلوف عليه ، أو يكون له سبب .



                                                                                                                          فرع : إذا استحلفه ظالم : هل رأيت فلانا أو لا ؛ وكان قد رآه ، فإنه يعني برأيت : ما ضربت رئته ، وإن قال : إن كانت امرأتي في السوق فعبدي حر ، وإن كان عبدي في السوق فامرأته طالق ، وكانا في السوق - عتق العبد ولم تطلق ؛ لأنه عتق باللفظ الأول ، فلما عتق لم يبق له في السوق عبد ، ويحتمل أن يحنث إن أراد عبدا بعينه ، بناء على من حلف على معين تعلق اليمين بعينه دون صفته .



                                                                                                                          مسائل : إذا حلف أنه يطأ في يوم ، ولا يغتسل فيه ، مع قدرته على استعمال الماء ، ولا تفوته صلاة مع الجماعة ، فإنه يصلي الفجر ، والظهر ، والعصر ، ويطأ بعدها ، ويغتسل بعد المغرب ، ويصلي معه .

                                                                                                                          إذا قال : أنت طالق إن لم أطأك في رمضان ، ثم سافر ثلاثة أيام ، ثم وطئ ، فقال أحمد : لا يعجبني ؛ لأنها حيلة ، وقال في رواية بكر بن محمد : إذا حلف على فعل شيء ، ثم احتال بحيلة فصار إليها ، فقد صار إلى ذلك الذي حلف عليه بعينه ، وقال القاضي : الصحيح أنها تنحل به اليمين ، ويباح به الفطر ؛ لأن إرادة حل اليمين من المقاصد الصحيحة .

                                                                                                                          إذا حلف في شعبان : ليجامعن امرأته في شهرين متتابعين ، فدخل [ ص: 380 ] رمضان ، سافر بها ، فإن حاضت فوطئ فيه ، كفر عن كل وطء في الحيض كفارته ، وعنه : لا يطأ ، وتطلق كمن حلف : ليسقين ولده خمرا ، نص عليه .

                                                                                                                          سئل أحمد عن رجل حلف : لا يفطر في رمضان ، فقال للسائل : اذهب إلى بشر بن الوليد ، فاسأله ، ثم ائتني فأخبرني ، فذهب فسأله ، فقال له بشر : إذا أفطر أهلك فاقعد معهم ولا تفطر ، فإذا كان السحر فكل ، واحتج بقوله - عليه السلام - : هلموا إلى الغداء المبارك فاستحسنه أحمد - رضي الله عنه - .




                                                                                                                          الخدمات العلمية