السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
سؤالي بخصوص توبتي إلى الله تعالى: فقد حاولت التوبة إلى الله تعالى من ذنوبي، منذ حوالي سنة، ومنذ ذلك الحين وأنا أتضرع إلى الله تعالى بالدعاء، لكي أقبل، ولكن لا أجد في قلبي ما يدل على أني قبلت عند الله، فإني أشعر بقسوة في قلبي.
كنت كلما شعرت بتلك القسوة كنت أرجع وأتضرع إلى الله تعالى ولكن طال الأمد، ولا زلت على حالي، فهل معنى هذا أني لم أقبل بعد؟ وأن ما حاولت أن أتقرب به إلى الله من الطاعات لم يقبل مني أم ماذا؟
كنت مع بقائي على هذا الحال أشك في أني أكلت حراما، فلم يستجب الله لي الدعاء؛ ولذلك كنت في كل مرة أرد قسطا من المال إلى الشركة بطريقة غير مباشرة، وذلك بأداء بعض التعويضات لأصدقائي في الشركة، كان على الشركة دفعها لهم مقابل سفرهم من أجل العمل، وكنت كل مرة أوزع قدرا من ذلك، وقد يصل أحيانا إلى ربع راتبي، فلما لم يظهر أثر شككت أن هذا مجرد وساوس.
المهم أني وصلت إلى شيء من اليأس، ليس من رحمة الله، ولكن من كوني لم أقف على السبب الذي من أجله ابتليت بهذه القسوة، وبعدم التوفيق، فقد انتكست في حفظ القرآن وطلب العلم، مع رغبتي فيهما، وصرت لا أتدبر آيات القرآن، ولا أعرف أي خطوة أخرى يمكنني اتخاذها. وصرت أقصر في كثير من الحقوق، وفي كثير من الطاعات؛ لأني لا أرى لها أثرا.
أرجو أن تشيروا علي، وجزاكم الله خيرا.
الإجابــة
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ نور الدين حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
مرحبا بك أيها الأخ الحبيب في استشارات إسلام ويب، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يزيدك هدى وصلاحا، وقد أحسنت أيها الأخ الحبيب غاية الإحسان بتوبتك إلى الله تعالى من ذنوبك الماضية ورجوعك إلى الله تعالى، فإنه لا مفر من الله إلا إليه.
التوبة أيها الأخ الحبيب إذا حصلت مكتملة مستوفية لشروطها فإن الله سبحانه وتعالى لا يرد صاحبها، فإنه سبحانه وتعالى أخبر بأنه يقبل التوبة عن عباده، فقد قال جل شأنه: (( وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفوا عن السيئات ويعلم ما تفعلون ))[الشورى:25]، ومن فضله سبحانه وتعالى وعظيم كرمه أنه يحب التوابين، بل أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه يفرح بتوبة التائب حين يتوب، وهذا فرح الكريم، فإنه يفرح بتوبة التائب ليجازيه على توبته ويحسن ثوابه عليها، وليس في حاجة لهذه التوبة فإن سبحانه غني عن العالمين.
أبشر يا أخي الكريم، أبشر بخير عظيم عند الله تعالى إذا كنت تبت توبة كما أرادها الله، فإن التوبة لها ثلاثة أركان أساسية، إذا حصلت فإن التوبة مقبولة:
أولها: الندم على ما فات من الذنب، والندم ألم في القلب، فإذا تألم القلب وتندم على ما حصل منه من الذنوب فإن هذا أول أجزاء التوبة؛ ولذلك فإن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (الندم توبة).
ثانيها: الإقلاع عن الذنب، يعني تركه في الحال فلا يفعله.
والركن الثالث: العزم في القلب على أن لا يعود الإنسان لهذا الذنب مرة ثانية.
إذا حصلت هذه الثلاثة، ولم تكن هنالك مظالم للعباد، أما إذا كانت هناك مظلمة لأحد من خلق الله فيضاف إليها شيء رابع وهو التحلل من المظلمة برد المظلمة على صاحبها أو طلب العفو منه، على تفصيل طويل عند الفقهاء في ما هي الذنوب التي يطلب من صاحبها العفو، ومنها ما لا يطلب، وأنت لم تذكر لنا ما هو الذنب بخصوصه حتى نتحدث معك عن هذه الجزئية.
لكن إذا كانت المعصية مما بين الإنسان وبين الله فإنه يكتفى بالثلاثة الأركان الأولى، فإذا حصلت فإن التوبة مقبولة - بإذن الله تعالى - وعلى الإنسان التائب بعد ذلك أن يحسن الظن بالله، وأنه سبحانه وتعالى لا يرد من طلبه وتاب إليه، فقد قال سبحانه وتعالى في الحديث القدسي: (أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء).
نحن نوصيك أيها الأخ الحبيب بأن تستمر على ما أنت عليه من التوبة إلى الله تعالى والتضرع إليه، وسؤاله أن يتوب عليك وأن يغفر ذنبك، ونوصيك مع هذا أن تحسن الظن بالله، وأن تعتقد أنه سبحانه وتعالى سيغفر لك الذنب، فإنه لا يتعاظمه ذنب، وقد ذكر سبحانه وتعالى الذنوب الكبيرة كلها في القرآن ابتداء بالشرك بالله فما دون، وذكر أنه سبحانه وتعالى يقبل التوبة من أصحابها إذا تابوا، فقال سبحانه: (( قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف ))[الأنفال:38]، وقال سبحانه وتعالى عن أكلة الربا: (( وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم ))[البقرة:279] وقال عن الزناة: (( والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما * يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا ))[الفرقان:68-69] ثم قال: (( إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما ))[الفرقان:70] وهكذا ذنوب كثيرة ذكرها الله في كتابه مع عظمها وكبر الوزر الذي يقع فيها صاحبها، إلا أنه سبحانه وتعالى أخبر بأنه يتوب على أصحابها، وقال سبحانه: (( وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ))[هود:114].
لا تيأس، وينبغي لك أن تأخذ بالأسباب التي تنقلك عن الذنب إلى العمل الصالح وذلك بأن تنتقل عن البيئة التي قد تقع فيها في معصية الله، وتحاول صحبة الأخيار، والإكثار من مجالستهم، ودوام الاستغفار وذكر الله تعالى، وبهذا إن شاء الله سيحصل لك لين في القلب ورقة؛ فإن رقة القلب ولينه إنما تستجلب بـ:
1) ذكر الله تعالى، بالإكثار من ذكر الله من الاستغفار، التهليل، التسبيح، التحميد، كثرة الدعاء بتضرع وإنابة، فإن هذا هو سبيل لين القلب، كما قال سبحانه وتعالى: (( ألا بذكر الله تطمئن القلوب ))[الرعد:28].
2) وإن كنت قادرا على الصدقة والإحسان إلى اليتامى فإن الإحسان لليتامى يلين القلب، وبهذا أوصى النبي صلى الله عليه وسلم من يشكو من قسوة في قلبه، أن يمسح رأس اليتيم ويطعمه من طعامه، فإن هذا من أسباب لين القلب ورقته.
3) مجالسة الصالحين والتأسي بهديهم أيضا يورث في القلب رقة وخشوعا.
4) تذكر أحوال الآخرة، تذكر الجنة والنار، وتذكر الحساب، والجزاء، والوقوف بين يدي الله، وتذكر القبر وما فيه من ضمة وظلمة، كل هذا يورث في القلب الإنابة إلى الله تعالى والخشية والخوف، وبهذا يصلح القلب إن شاء الله تعالى.
لا تيأس أيها الأخ الحبيب من رحمة الله تعالى، ولا تقنط من فضله، فإنه سبحانه وتعالى كريم، ولا يغيض يديه نفقة، وهو سبحانه وتعالى (يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل)، وأنت إذا فعلت بهذه النصائح فإنك ستصل بإذن الله تعالى في لحظة ما إلى ما ترجوه وتأمله من صلاح قلبك وصلاح أعمالك، وقد قال العلماء سابقا: "من أكثر قرع الباب أوشك أن يفتح له" فقد يظل الإنسان فترة طويلة لا يشعر بلين في قلبه مع كثرة أعماله، لكن مع الاستمرار والدوام على ذلك فإنه بإذن الله ستفتح له الأبواب وسيصل إلى ما يسعى إليه ويأمله.
وصيتنا أيها الأخ الحبيب أن لا تكسل عن حفظ القرآن الكريم ومراجعته، ومعاهدة ما كنت قد حفظته، والإكثار من القيام به في الليل والنهار، الإكثار من الصلوات وتلاوة ما تقرأه وتحفظه فيها؛ فإن هذا من أسباب رقة القلب وخشوعه، وطلب العلم الشرعي والتفقه في دين الله من أعظم الأسباب التي تحول بين الإنسان وبين الانتكاسة، فابذل وسعك، وحاول أن تجالس طلبة العلم المجدين المشمرين، وتحضر حلقة العلماء؛ فإن في حضور هذه الجماعات والجلوس إليهم ما يقوي الرغبة في الإنسان للتعلم والطلب والحفظ.
نسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يأخذ بيديك إلى كل خير، وأن يعينك على تحقيق مرضاته، ويجنبك سخطه.