السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الإخوة الأفاضل القائمون على ركن الاستشارات الشرعية والنفسية، أود السؤال عن كيفية الصبر الحقيقي على الابتلاء، الذي يكون فيه إرضاء رب العالمين، ولا أسجل به من الساخطين على قضاء الله وقدره؟
سأحكي لكم القصة التي حدثت معي والتي دعتني لهذا السؤال، أنا حاليا أمر بألم نفسي كبير جدا، أفقدني القدرة على العيش بشكل طبيعي، والتي كانت بسبب أني أحببت فتاة لمدة سنة كاملة حبا جما، واخترت هذه الفتاة لتكون زوجتي، وكان اختياري لها على أساس الدين، وأنها من الذين يحملون هم الدعوة لله عز وجل.
تقدمت لخطبتها بعد هذه السنة، وتم تيسير الأمر بشكل غريب وحدوث الموافقة بشكل سريع جدا، والارتياح من كلا الطرفين كان أيضا كبيرا جدا، فهم أهل دين وتقوى، وأهلي أيضا كذلك، ولا نزكي أنفسنا على الله، حتى أتى موعد الفحص لمرض (الثلاسيميا) فتبين أنني وهي حاملان للمرض! وأنتم تعلمون أنه في هذه الحالة تصبح مسألة الارتباط مستحيلة، لما لها من آثار مرضية كبيرة على الأطفال، فكان التوقف عن الزواج وإنهاء الأمر هو الحل المثالي.
من ذلك الوقت وأنا متألم جدا، وتأتيني هواجس غريبة بأن الله عز وجل ما فعل هذا الأمر بي إلا لأنه يكرهني، وهذه الأفكار ترتبط أيضا بما حدث لي من قبل، وهو تأخري الدراسي لظروف خارجة عن الإرادة في كلية الطب، من هذه الأفكار أيضا أنه مقدر عليك أن لا تفرح، وأن لا تسر، انظر إلى صديق عمرك الذي لطالما تشاركتما معا حبكما كيف وفقه الله وبارك له زواجه، وأنت وضعك كما قلت لكم، هذا لا يعني أني أحسده، بل والله إني أحبه جدا، ولطالما دعوت له، وخصوصا في الثلث الأخير من الليل.
إخوتي الأفاضل: حياتي أصبحت تعيسة جدا، أضحك وأبتسم لأخفي ألمي، طالما كنت قويا على الابتلاءات، ولكن هذا الأمر أضعفني جدا من الداخل، وأفقدني القدرة على الخروج من الأمر.
أرجوكم ماذا أفعل؟
الإجابــة
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ محمد حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد،،،
مرحبا بك أيها الحبيب في استشارات إسلام ويب، ونسأل الله تعالى أن يكتب لك الشفاء العاجل مما تعاني من المرض، وأن يأجرك في مصيبتك.
نحن نتفهم أيها الحبيب مدى ما أصبت به من الضيق، ونسأل الله تعالى أن يفرج كربك، ولكن السبب الكبير في إصابتك بما أصبت به هو عدم إدراكك لحقيقة الابتلاء على الوجه الصحيح، فليس صحيحا أيها الحبيب أن الابتلاء دليل البغض من الله تعالى، فإن الله عز وجل قد ابتلى خير الخلق، وهم أنبياء الله ورسله، قدر عليهم عدة ابتلاءات، فابتلى بعضهم بالمرض، وأنت تقرأ هذا جيدا في كتاب الله تعالى، وابتلى بعضهم بتسليط أعدائه عليه حتى قتلوه، وابتلى بعضهم بأن شرد من وطنه، وهكذا تعددت الابتلاءات وهم خيرة الخلق.
ليس صحيحا ظنك أن ابتلاء الله عز وجل لك في بعض المكروهات دليل على بغضك، بل يرجى للإنسان المؤمن إذا ابتلي وصبر أن يكون بهذا الابتلاء -إن شاء الله- عالي الدرجة عند الله عز وجل، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (إن الله إذا أحب قوما ابتلاهم) وفي الحديث الآخر: (لا يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشي على الأرض وما عليه خطيئة) والأحاديث في هذا المعنى كثيرة جدا، كلها تدل على أن الابتلاء قد يكون سببه محبة الله تعالى لهذا الإنسان، فيريد أن يرفع درجاته عالية في الجنة لا يبلغها إلا بالصبر على البلاء، وأحيانا يريد أن يكفر عنه ذنوبه وسيئاته قبل أن يرحل من هذه الدنيا حتى يمشي على الأرض وما عليه خطيئة، إلى غير ذلك من المقاصد العظيمة التي يقدر الله عز وجل من ورائها المكروهات على بعض من يحبهم.
إذن لو صححت هذا المفهوم لديك وأدركت الأمر على حقيقته لعلمت أن البلاء الذي ينزل بك هو أيضا نعمة من الله تعالى عليك، ينبغي أن تؤدي حق هذه النعمة، فإن المؤمن كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن) فأنت تتقلب في الخير على جميع حالاتك.
ثم اعلم أيها الحبيب أن الله سبحانه وتعالى أرحم بك من نفسك، فهو سبحانه وتعالى قد وسع كل شيء رحمة وعلما، فإنه لا يقدر عليك إلا برحمته جل شأنه، ولا يقدر عليك ما يهلكك، إنما يقدر عليك ما يقدر ليصلح أحوالك الظاهرة والباطنة العاجلة والآجلة، لكن طبيعة الإنسان أنه قد يتعلق بالشيء ويحبه، هذا أمر فطري، ويقدر الله عز وجل عليه خلاف ما يحب فيتألم ويكره ولكنه لا يدري العواقب، وقد قال لنا ربنا في كتابه: ((وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم، وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم، والله يعلم وأنتم لا تعلمون))[البقرة:216].
إذن كن على ثقة أيها الحبيب بأن ما يجريه الله عز وجل عليك من الأقدار إنما هو محض مصلحتك، وأنه سبحانه وتعالى يقدر عليك هذا وهو رحيم بك، بل أرحم بك من أبيك وأمك، وأرحم بك من نفسك، وهذا يعينك على الصبر على هذه الأقدار المؤلمة التي تنزل بك، فعاقبة الصبر عظيمة كما قال جل شأنه في كتابه الكريم: ((إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب))[الزمر:10] وعاقبته عذبه كما قال القائل:
والصبر من اسمه مر مذاقه *** لكن عواقبه أحلى من العسل
فللصبر عواقب حميدة أيها الحبيب، وسيأتي يوم يبعث الناس من قبورهم ويخرجون لنيل جزائهم، فيتمنى بعض أهل العافية الذين لم يبتلوا بأن جلودهم قرضت بالمقاريض – يعني قصت بالمقص وقطعت – لينالوا الثواب الذي يرونه قد ناله الصابرون.
أنت أيها الحبيب في خير كثير، ينبغي أن تؤدي مقام الابتلاء حقه من الصبر والاحتساب، واعلم بأن العاقبة الفرج، فإن الله عز وجل لا يقدر على الإنسان ما يكره ليهلكه وإنما ليبتليه، فإذا فاز في هذا الابتلاء سعد في الدنيا والآخرة.
وما يدريك لعل الله عز وجل علم - وأنت لا تعلم – علم بأن زواجك من هذه الفتاة ليس خيرا لك كما قد تظنه أنت، وأن الخير في أن تتزوج غيرها، فاسأل الله تعالى بدعاء الاستخارة الذي علمنا إياه رسولنا صلى الله عليه وسلم، فإنا نتوسل إليه بعلمه الغيب: فنقول: (اللهم إنك تعلم ولا أعلم، وتقدر ولا أقدر، وأنت علام الغيوب) فهو سبحانه وتعالى أعلم بعواقب الأمور منا، ولذا ينبغي لنا أن نتذكر هذه المعاني العظيمة فنرضى بقضاء الله تعالى وقدره.
أما الصبر أيها الحبيب الواجب عند نزول المكروه والمصيبة فمعناه حبس النفس؛ لأن الصبر معناه الحبس، والصبر الشرعي معناه: حبس النفس من التسخط بقول أو فعل، فيمنع الإنسان نفسه من أن يتلفظ بكلمات تدل على الضجر من قدر الله تعالى، أو فعل كلطم الخد وشق الجيب ونتف الشعر، ونحو ذلك من الأفعال المحرمة التي تدل على التسخط والضجر من قضاء الله وقدره.
فإذا حبست لسانك وجوارحك وقلبك عن التسخط، فإنك بذلك قد أديت الصبر الواجب، لكن هناك مقام أرفع وأعلى من الصبر وهو الرضا بما قدره الله تعالى، وهذا مستحب وليس بواجب، الرضا أن يشعر الإنسان بالفرح وأن يشعر الإنسان بالسكينة عندما تنزل عليه المصيبة لعلمه أن الله سبحانه وتعالى لم يقدر ذلك إلا لما هو خير له، وهذا الرضا مقام أعلى وأشرف من الصبر، فمن بلغه فالحمد لله ومن لم يبلغه فصبر فقد أدى فرض الله سبحانه وتعالى عليه.
نسأل الله تعالى أن يقدر لك الخير حيث كان، وأن يفرج كربك، ويعجل لك بالشفاء ويرزقك الزوجة الصالحة التي تحبها وتقر بها عينك وتسكن إليها نفسك، وكن على ثقة أيها الحبيب بأن النساء كثيرات وما أعجبك في هذه الفتاة ستجد أضعافه في فتاة أخرى تعجب بها، وتلائمك ويقدر الله عز وجل لك فيها الخير، فلا تسمح للإحباط واليأس أن يتسربا إلى قلبك.
نسأل الله تعالى أن يقدر لك الخير حيث كان.