السؤال
السلام عليكم..
أنا أعيش بلا أب وأم منذ طفولتي، وقد عانيت من القسوة والعنف التي أثرت على شخصيتي وثقتي بنفسي.
أعاني من فراغ عاطفي، وأتمنى أن أجد حضنا دافئا، ودائما ما أتخذ قراراتي بنفسي؛ لأني لا أجد من أستشيره، فلذلك صرت أخاف من كل شيء جديد يطرأ على حياتي.
كما أنني أغار من ابنة خالتي، فهي لديها أم حنون، وقد حضرت مناسبة ورأيت خالتي وهي تحضن ابنتها وتقبلها، فشعرت بالغيرة، وذهبت إلى دورة المياه، وبكيت هناك.
أنا لا أحب أن أخبر أحدا بمشاكلي، لأني لا أريد أن يشفق علي أحد، ولكني أتمنى أن أعيش عزيزة كابنة خالتي، وأرجو أن تساعدوني كي أستطيع أن أعيش في هذه الحياة المتعبة، فأنا أحس بأني لا أستحق أن أعيش، فلمن أعيش؟
الإجابــة
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ نوال حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فموت أبيك وأمك في صغرك أمر قدره الله عليك من قبل أن تخلقي، وهكذا سائر شؤونك وشؤون الكون، كما قال تعالى: (إنا كل شيء خلقناه بقدر)، وقال عليه الصلاة والسلام: (قدر الله مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء)، ولما خلق الله القلم قال له اكتب، قال وما أكتب؟ قال: (اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة)، وقال عليه الصلاة والسلام: (كل شيء بقضاء وقدر حتى العجز والكيس) والكيس الفطنة.
الإيمان بالقضاء والقدر من أركان الإيمان، والأجر والمثوبة يكون على قدر البلاء، فإن عظم البلاء عظم الجزاء، والابتلاء عنوان محبة الله للعبد، يقول عليه الصلاة والسلام: (إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله عز وجل إذا أحب قوما ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط)، فعليك أن ترضي بقضاء الله وقدره، وحذار أن تتسخطي، وإلا فالجزاء من جنس العمل.
أنت الآن شابة عاقلة متزنة، وغدا تكونين زوجة وأما مربية لأبنائك، فلا تنظري للحياة بقتامة، ولكن انظري إليها بإيجابية، وفكري بالمستقبل، ولا تجعلي الماضي يجرك ويؤثر على حياتك، فمهما كانت القسوة والمعاناة التي عشتها فاتخذي منها مصدرا للقوة، ونشاطا للانطلاق، ونبراسا للتميز، فالإبداع، وصناعة الحياة، ووضع البصمات فيها يولد من رحم المعاناة، وما نشأ العظماء إلا بعد المعاناة والمكابدة، ولنا في نبينا عليه الصلاة والسلام أسوة وقدوة، وكم من الناس رجالا ونساء كانت بداياتهم محرقة ولكن كانت نهاياتهم مشرقة.
أفضل شيء يجد فيه الإنسان الدفء والحنان والطمأنينة وراحة البال هو الإيمان بالله والالتجاء إليه، وكثرة ذكره، وتلاوة كتابه، فذلك محضن دائم وآمن وثابت بخلاف المحضن الإنساني، فإنه غير دائم، ومتقلب، وغير آمن مهما كان قلب صاحبه، فهنالك من الأبناء من يشتكون من آبائهم وأمهاتهم، ولعل الله تعالى أن يعوضك بزوج صالح تجدين معه ما يملأ فراغك العاطفي.
أكثري من الدعاء بين يدي الله تعالى وأنت ساجدة، وسليه أن يشرح صدرك، ويزيل همك، فهو القادر سبحانه أن يجعل لك بعد الكآبة سعادة، وبعد الهم انشراحا، وبعد الضيق سعة، وبعد الحزن فرحا، واطلبي حاجتك منه لا من البشر الفقراء العاجزين عن نفع أنفسهم.
لو قوي إيمانك بالله لعرفت أن ما عندك خير مما عند بنات خالك وغيرهن، فالسعادة الحقيقة في تقوى الله، وليس بقبلة من أم أو ضمة من صدر أب، ولذلك فهم من ذاق طعم الإيمان هذا المعنى، فهذا ابن المبارك -رحمه الله- كان يقول لطلابه وهو المعروف بالزهد والورع والتقوى: " لو يعرف الملوك وأبناء الملوك ما عندنا من السعادة لقاتلونا عليها بالسيوف" ويقصد سعادة الإيمان.
لا تعطي نفسك الرسائل السلبية كقولك: (أنا لا أستحق العيش فلمن أعيش)، بل أنت من يستحق أن يعيش، وتعيشين من أجل تنشئة جيل صالح من أبنائك تكون لهم بصماتهم في حياة الأمة.
لو فتشت في حياة بنت خالك لوجدت عندها معاناة كثيرة غير ما تعانينه أنت، فلا أحد مستريح في هذه الحياة، لكن عليك بتوثيق صلتك بالله تعالى، وستنحل كل مشاكلك، وتزول كل همومك بإذن الله، ولذلك قال بعض الصالحين: (من وجد الله فماذا فقد ومن فقد الله فماذا وجد).
حافظي على الصلاة في أوقاتها، وأكثري من تلاوة القرآن الكريم، وداومي على أذكار اليوم والليلة، يطمئن قلبك كما قال تعالى: (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ۗ ألا بذكر الله تطمئن القلوب).
قوة الإيمان بالله، وكثرة الأعمال الصالحة يجلب للعبد الحياة الطيبة، كما قال تعالى: (من عمل صالحا من ذكر أو أنثىٰ وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ۖ ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون).
أسأل الله تعالى أن يزيل همومك، ويرزقك قوة الإيمان، ويجعل لك فرجا ومخرجا، ويرزقك الزوج الصالح الذي تسعدين معه، والله الموفق.