أشعر بتشتت وعدم اتزان، وأخشى الانتكاس.

0 26

السؤال

السلام عليكم

منذ مدة طويلة وأنا أشعر بتشتت شديد وعدم اتزان، سواء على صعيد علاقتي مع الله -سبحانه وتعالى- أم مع عائلتي وأصدقائي، أشعر بضيق وأتمنى أن أتعامل مع هذا الموقف بشكل صحيح، خائفة أن أحيد عن الطريق الصحيح أو أنتكس، أحاول أن أبعد هذه الأفكار عني لكن لا زال عقلي مشغولا بها.

أصبت قبل سنوات بوساوس كثيرة أتعبتني ولكن -بفضل الله وحده- أبعدها عني ونجوت، مؤخرا أصبحت هذه المشاعر تزداد خصوصا بعد وفاة أبي -رحمه الله-، فقد توفي قبل ٣ أشهر.

بعض الأحيان أستيقظ صباحا ويجتاحني ضيق يجثم على صدري، فأحاول أن أفعل أي شيء حتى يذهب مني هذا الشعور، وفي بقية اليوم يصبح لا رغبة لي في عمل شيء جديد، أبكي كثيرا بيني وبين نفسي، أشعر بالصداع والغثيان، أحاول قدر استطاعتي أن أتجاهل كل هذا خوفا مني أن يتسلل لقلبي سخط على قدر الله.

تثاقلت نفسي عن أداء النوافل فلا أستطيع صوم الاثنين والخميس، والسنن الرواتب مرات أصليها ومرات أتركها، ووردي القرآني أصبح ثقيلا علي فأقرأ صفحة أو صفحتين، وكنت سابقا أقرأ جزءا بفضل الله.

بعد وفاة أبي أصبحت علاقتي مع أمي متوترة والمشاكل تزداد يوما بعد يوم، فهي عصبية وسريعة الغضب وتلومني، لا أستطيع أن أتمالك نفسي؛ لأنني غير متزنة ومشتتة، وأرى كل ما حولي في انحدار، وأندم كثيرا على أفعالي هذه.

أخاف أن الله قد غضب علي أو ختم على قلبي، يعتصرني الألم، أخاف أن أموت وأنا على هذا الحال.

أرجو منكم النصيحة.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ السائلة حفظها الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد

اتفهم معاناتك -يا ابنتي-، وعظم الله -عز وجل- أجركم في الوالد، وغفر له وأدخله جنات الخلد بإذنه -جل وعلا-.

من الواضح بأنك إنسانة على قدر كبير من النضج والوعي، وفي داخلك الخير الكثير، وإنسانة بمثل صفاتك الجميلة تحاسب نفسها قبل أن تحاسب هي إنسانة يجب أن تكون فخورة بنفسها، لكنك الآن تمرين بحالة اكتئاب، وهذا أمر عارض، ولا يعني بأنك تغيرت كأنسانة تقية تريد مرضاة الله -عز وجل-، وستعودين كما كنت بإذنه -جل وعلا- بعد علاج الحالة.

إن حالة الاكتئاب عندك ساهم في ظهورها عدة عوامل، منها ما هو خارجي ومنها ما هو داخلي، بالنسبة للعوامل الداخلية فأهمها هو الاستعداد الوراثي، وطبيعة شخصيتك، فلقد أصبح مؤكدا بالدراسات الحديثة على أن الاكتئاب هو مرض له مكون وراثي، لكن هذا لا يعني بأن كل من لديه الاستعداد الوراثي سيصاب بالاكتئاب، لكن يعني بأن هذا الشخص سيكون مؤهبا أكثر من غيره للإصابة بالاكتئاب إذا مرت عليه ظروف صعبة.

وللوراثة أيضا دور في تحديد شخصية الإنسان، ومن الواضح بأن شخصيتك هي من النوع الطموح، والذي يسعى للكمال والمثالية ويحب الإنجاز، ومعلوم بأن هذه الشخصية تعرض صاحبها للضغوط، وتقوده أحيانا إلى حالة من الإحباط تنتهي بحالة اكتئاب.

بالطبع هنالك أيضا العوامل الخارجية والظروف التي مررت بها منها: وفاة والدك، وشخصية والدتك العصبية، فقد ساهمت في حدوث حالة الاكتئاب عندك بهذا الشكل.

وقصدت أن أبدأ كلامي بهذا الموضوع لأقول لك بأن جزءا من معاناتك لست أنت المسؤولة عنه، وأنك لست مذنبة، فلعلك إن عرفت بذلك سيخف شعورك بالذنب وتأنيب الضمير، وهذه نقطة هامة جدا؛ لأن مثل هذه المشاعر السلبية المكبوتة لها دور كبير في زيادة الاكتئاب، وبالطبع إن حالة الاكتئاب التي أنت فيها الآن لها دور كبير في شعورك بالعجز والكسل، وعدم القدرة على التركيز والرغبة في الانعزال وغير ذلك من المشاعر التي تشعرك بعدم القدرة على الاستمرار، لكن الخبر الجيد هو أن الاكتئاب هو حالة أو مرض قابل للعلاج، -والحمد لله- لدينا الكثير من الأدوية الفعالة والآمنة لاستخدامها، لذلك أنصحك بمراجعة الطبيبة النفسية لتقوم بتقييم حالتك عن قرب، وتحديد نوع العلاج المناسب لك، وستشعرين بتحسن في خلال 2-3 أسابيع، وسيزداد التحسن بعد ذلك، وستتمكنين من الرجوع إلى نشاطك المعتاد، وأداء كل ما اعتدت عليه من طاعات -إن شاء الله تعالى-.

أنصحك بعمل بعض التحاليل لنفي بعض الأمراض التي قد تتظاهر بأعراض تشابه أعراض الاكتئاب وأهمها: فقر الدم، نقص الفيتامينات، اضطراب وظيفة الغدة الدرقية، وهذا كنوع من الاحتياط فقط، وأنصحك باتباع ما يلي:

1- التعرض للشمس يوميا مدة لا تقل عن 15 دقيقة في الصباح إما عن طريق الخروج لحديقة المنزل، أو الجلوس أمام شباك غرفتك، وهنالك أجهزة تصدر أشعة كأشعة الشمس أصبحت متوافرة في الأسواق، يمكنك شراء واحد ووضعه على مكتبك، والجلوس أمام هذا الضوء عند الاستياقظ مدة نصف ساعة، فقد تبين بأن أشعة الشمس تحرض خلايا الدماغ على إفراز هرمونات تعاكس هرمونات الشدة وتسبب السعادة والرضا.

2- ممارسة الرياضة بشكل مستمر، فيمكنك المشي مدة ساعة يوميا، فالرياضة لها مفعول أشعة الشمس ذاتها، بالإضافة إلى تحسين اللياقة البدنية وزيادة الثقة بالنفس.

3- اتباع نمط صحي في الطعام، بحيث يحتوي على االكثير من الخضار والفاكهة التي تحتوي على فيتامينات هامة لعمل خلايا الدماغ، كما أنصحك بتناول السمك (سلمون، سردين، ماكريل) مرتين أو ثلاثة في الأسبوع؛ لأنه يزود الجسم بؤميغا 3 و6 والتي هي ضرورية لعمل الخلايا العصبية.

4- مارسي أي عمل أو هواية تحبينها، سواء داخل أو خارج المنزل مثل الاهتمام بتنسيق حديقة المنزل، الخياطة، الرسم، المشاركة في الأعمال الخيرية، حضور حلقات الذكر، أو أي شيء آخر تحبينه ويناسب ظروفك، فالانشغال بعمل محبب سيشتت الأفكار السلبية التي تراودك، وتجعل نظرتك لنفسك نظرة سلبية.

5- اجعلي لنفسك هدفا محددا يكون حافزا لك لتغيير أفكارك السلبية عن نفسك، اكتبيي هذا الهدف على ورقة واصطحبيها معك أينما ذهبت، وعندما تشعرين بالحزن، أو تراودك الأفكار السلبية افتحي الورقة وقومي بقرائتها، فهذا سيشحنك من جديد ويطرد الافكار السلبية.

6- مارسي تمارين الاسترخاء، وهنالك طرق عدة لهذه التمارين (تمارين التنفس، تمارين التأمل، تمارين التخيل) ولعل أهمها في حياتنا كمسلمين هي الصلاة، ركزي خلال صلاتك في معاني ما تقرئينه من آيات وأدعية، وتفكري بها، وكلما شعرت بأن الافكار السلبية راودتك، وتريد أن تلهيك عن الصلاة أو قراءة القران أو أي عبادة، لا تؤنبي نفسك بل تقبلي الأمر على أنه أمر عابر، وأنك قادرة على أن تتحكمي به، ولن تتركيه هو الذي يتحكم بك، ثم عودي ثانية للتركيز في الصلاة ومعاني ما تقرئين.

بقي أن أقول لك: بأن تحاولي تحسين علاقتك بوالدتك، فكوني أنت المبادرة دائما، ولا تنتظري أي مقابل، فأنت لا تعلمين بالظروف أو المعاناة التي مرت بها والدتك في مشوار حياتها قبل وبعد الزواج، فلربما عاشت ظروفا صعبة جدا في الطفولة تركت تأثيرات سلبية على شخصيتها، ولربما لم تجد القدوة الحسنة في طفولتها لتتعلم منها الطريقة الصحيحة في السيطرة على غضبها، وأنا هنا لا أقصد أن أبرر لها تصرفاتها السلبية بأي شكل، لكن أردت أن أوضح لك بأنك لن تستطيعي تغير شخصية والدتك وتصرفاتها الآن، لكن يمكنك تغير ردة فعلك وطريقة تعاملك معها، أي أن العبء الأكبر في تحسين العلاقة بينكما سيكون عليك أنت، وهذا سيؤدي حتما وبشكل غير مباشر لحدوث تقارب بينكما، وتفادي الصدام المستمر، وسأضرب لك مثالا على كيفية فعل ذلك:

إذا كنت تتحدثين مع والدتك في موضوع ما، أو طلبت منها شيئا ما وعارضتك وصرخت في وجهك، أو قامت بأي تصرف سلبي نحوك، تمهلي في الرد، وخذي نفسا عميقا عدة مرات، ثم انظري في عينيها نظرة دافئة، وتحدثي معها بلهجة هادئة وودية وقولي لها:(أنا أحبك وأحترمك -يا أمي- لكن تصرفك وكلامك بتلك الطريقة معي يؤلمني، ويجعلني أشعر بالحزن الشديد، فإذا كان لديك أية ملاحظات نحوي فأرجو منك أن تخبريني بذلك بكل صراحة، لكن بطريقة غير جارحة، وأعدك بأن آخذ وجهة نظرك بعين الاعتبار، وأن أراجع نفسي، فأنا أثق بك لأنك أمي، وخبرتك في الحياة أكثر من خبرتي)، وهكذا كرري طريقة التحاور هذه بلطف، مع ضرورة النظر إلى عينيها في كل موقف معها، فبذلك تشعرينها بالاحترام، وبأهميتها في حياتك، وبالوقت ذاته تنقلي إليها رسالة بأنك مستعدة للتجاوب معها إن تغير الأسلوب.

وأنصحك بأن تظهري لها اهتمامك وحبك باستمرار عن طريق مساعدتها في أعمال البيت، أو في أي شيء تحتاجه، وحاولي بين الحين والحين مفاجأتها بعمل شيء تحبه، ثم احتضنيها واطبعي قبلة على جبتها مع إسماعها بعض الكلمات الطيبة، وقد لا تكوني معتادة على فعل ذلك، ولكنني أوأكد لك بأن هذا سيسعدها جدا، وسيغير من أسلوبها معك، بل وستصبح أقرب صديقة لك، وبقلبها الكبير، وحبها اللامحدود ستكون خير معين لك في هذه الحياة -بإذن الله تعالى-، وأنت ببرك لها وكلامك الطيب معها ستكونين كالبلسم الشافي لأي معاناة قد تكون بداخلها، فلا تبخلي عليها بذلك، والمردود سيكون مجزيا لك في الدنيا والآخرة -إن شاء الله تعالى-.

كما أوصيك بوالدتك خيرا ومعرفة عظيم حقها عليك، فإن الله تعالى يقول: (وإن جاهداك على أن تشرك بي شيئا فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا)، كما أوصانا نبينا صلى الله عليه وسلم بحسن صحبتها، وبين لنا أنها باب إلى الجنة، فهي الأم وهي التي كان لها عظيم الفضل بعد الله تعالى، كيف لا والله تعالى يقول: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا).

والله الموفق.

مواد ذات صلة

الاستشارات