السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
والداي في صغري سببا لي الكثير من الصدمات النفسية، ومررت بمواقف في صغري وفي مراهقتي لم يساعداني فيها! وكانت والدتي تهجرني كثيرا عندما كنت أحتاجها، وتقول لي كلاما بذيئا.
أصبح عمري 21 سنة، أعطي والدي حقهما وأطيعهما دائما، وأدخل السعادة إلى قلبيهما، وأحضر لهما الهدايا كل فترة، لا أعتبر نفسي فتاة عاقة لوالديها، لكن في هذه الأيام أشعر ببرود تجاههما، ويبدآن بالصراخ علي أو ذمي على أمور صغيرة، أو حتى عدم ترك المساحة الشخصية لي، أو أن أختار -الأشياء المختارة ليست دينية، وإنما هي فعلا اختيار، وكل الفتيات في العائلة يختارون ما يريدون- لكن والدتي تختار لي وتتجاهل رغبتي في الاختيار!
أشعر ببرود تجاههما، وأنعزل في غرفتي، أو إذا كان لدي أيام دوام في الجامعة أتأخر إلى المغرب، ثم أعود إلى المنزل حتى لا أدخل في نقاشات معهما، فهل هذا من العقوق؟
الإجابــة
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ مريم حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
أهلا بك -أختنا الفاضلة- في موقعك إسلام ويب، وإنه ليسرنا تواصلكم معنا في أي وقت، ونسأل الله أن يحفظك، وأن يرعاك، وأن يقدر لك الخير حيث كان، وأن يرضيك به.
وبخصوص ما تفضلت بالحديث عنه؛ فإنه يسرنا أن نجيبك من خلال ما يلي:
أولا: معاناة الصغر لا يخلو منها طفل، وكل يفسر الأحداث وفق رؤيته له، فما تعتقدينه تشددا في المعاملة، أو قسوة، أو غلظة قد يراه واجبا وحماية وصيانة لك، ونحن هنا لسنا في دور التقييم، وإنما نوضح الواقع حتى لا يستثمره الشيطان فيضخم ما تعتقدينه مشكلة حتى يباعد بينك وبين والديك، وهذا أول الهلاك.
ثانيا: ما مضى لا يلغي فكرة وجود أخطاء تقع من بعض الوالدين، ونحن نقول دائما الشرع ضد كل سلوك تربوي خاطئ من الوالدين أو غيرهما، فلا عصمة لأحد.
نعم، قد يقع بعض الآباء في سلوك تربوي خاطئ تجاه أولادهم، وقد يكون بسبب خطأ من الولد، أو تراكم ضغوط هائلة علي الوالدين لا يعلم بها الأبناء، وقد يكون غير ذلك، لكنا في ذات الوقت نفرق بين الخطأ الذي دافعه الكراهية والبغض، أو الإضرار المتعمد بالولد، وبين الخطأ الذي ربما كانت تصحبه نية صالحة ويتبعه سلوك خطأ، ومما لا شك فيه أن الأول -وهو قصد الإضرار- محال وجوده بين الوالدين مع ولدهما.
ثالثا: الضغوط النفسية التي تذكرين أنها وقعت من قبل والديك، وعدم مساعدتهما لك أيام مراهقتك قد تكون صحيحة أو غير ذلك، وقد يكون بعضها حقيقيا والآخر مضخما، لكن على كل حال يجب الانتباه إلى ثلاثة أمور:
- بر الوالدين والإحسان إليهما ليس مقابل عوض، بمعنى أن البر لا يلزمه إنفاق الوالد على ولده أو إحسان الأب لولده، نعم هو واجب عليه وسيحاسب إن قصر في ذلك، لكن الله لا يربط بر الولد بأبيه بذلك، بل يأمره بالبر والإحسان وإن أساء، ويأمره بالصلة والمصاحبة ولو كان كافرا أو داعية كفر، قال الله -عز وجل-: {وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا}، فانظري بارك الله فيك إلى قول الله (صاحبها في الدنيا معروفا)، وهما يحرضانه على الكفر بالله! لتعلمي قدر البر عند الله -عز وجل-.
- اعلمي أن الشيطان يعمد إلى تضخيم ما تنظرين إليه على أنه أخطاء من والداك تجاهك في الوقت الذي يضعف لك ويهون عليك ما يقدمانه وما يبذلانه لك من جهد تجاهك وإخوانك؛ لذا حتى تستقيم تلك النظرة لا بد من الجمع بين الأمرين، مع الاعتذار لهما بكثرة الضغوط التي على كاهل كل أب أو بأشياء أخرى لا تعلمينها.
- الحب الأبوي حب فطري لا يملك الوالد من الأمر فيه شيئا، الله فطره على محبتك بلا مقابل، فانتبهي، الوالدان فقط هما من يبذل كل غال ونفيس لأولادهم بلا مقابل، وأي أحد بعدهما مهما قال أو ذكر لا يهتم إلا بمقدار ما يستفيد.
رابعا: البرود الحاصل سببه ما يلي:
- كثرة استحضار ما مضى من مشاكلك والتفكير فيها وتضخيمها، ونسيان كل ما كان منهما من إحسان إليك، ولو عكست النظرة لتغيرت النفسية أو قلت.
- النظرة السلبية للتصرفات الأبوية والتي قد تتعارض مع بعض ما تريدينه.
- غياب استحضار أجر البر بهما والإحسان إليهما.
إذا ما استطعت تغيير هذه الأسباب ستتحسن القابلية النفسية عندك.
أختنا الفاضلة: بجوار ما سبق ننصحك بما يلي:
- استحضار أن رضا الله في رضا الوالدين، وسخط الله في سخطهما، قال صلى الله عليه وسلم: (سخط الله في سخط الوالدين، ورضا الله في رضا الوالدين).
- النظرة المتوازنة إلى الأم بما لها وما عليها، والواجب عليك تجاه برها.
- كثرة الحوار معها بلطف مع تذكيرنا لك بأنها مفطور على محبتك؛ لذا كل اقتراب منها سيجدي نفعا.
- اتهمي نفسك بالخطأ، وراجعي حساباتك، فأحيانا ما نفهم أمورا على غير وجهها، ثم نعتقد أنها حقائق، ثم نبني عليها أحكاما تعكر صفو حياتنا؛ لذا من المهم مراجعة طريقة تعاملك مع والديك والتماس الأخطاء وإصلاحها.
إننا نريد منك أن تذهبي إلى الوالدة بود صاف وعقل متفتح، وأن تحدثيها بحب، لا عن الماضي بما فيه، ولا عن مشاكلك، بل حدثيها عن تعبها لأجلكم وعن الشعور بتقصيركم في حقها، أشعريها أنك تشعرين بها، حديثها بحب فأنت بعضها، وغدا حين تتزوجين وسترحلين عنها وتبقى مثل هذه الذكريات.
وأخيرا: نوصيك ونتمنى عليك مصاحبة والديك، والاستماع إليهما فهما فاكهة راحلة، ولك أن تسألي كل من رحلت عنها والدتها تخبرك بالفارق، نسأل الله أن يبارك لك في العمر، وأن يحفظك من كل مكروه، والله الموفق.