الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فتعديل الصحابة -رضي الله عنهم-، هو مما أجمع عليه من يعتد بإجماعه من هذه الأمة، ولا يعرف من طعن فيهم وشكك في عدالتهم إلا الشذاذ من أصحاب الأهواء والفرق الضالة المنحرفة ممن لا يلتفت إلى أقوالهم، ولا يعتد بها في خلاف ولا وفاق.
والله تعالى قد عدلهم في كتابه، وأثنى عليهم ومدحهم في غير ما آية، فقال جل وعلا: محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود.. {الفتح:29}، وقال تعالى: لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون {التوبة:88}. وقال تعالى: واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم {الكهف:28}. وقال سبحانه: لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا * ومغانم كثيرة يأخذونها {الفتح: 18ـ19}. وقال -عز وجل- في آيات الفيء: للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون* والذين تبوأوا الدار والأيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون {الحشر:8ـ9}. إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي تزكيهم، وتشيد بفضلهم ومآثرهم، وصدق إيمانهم وإخلاصهم، وأي تزكية بعد تزكية الله الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء؟!
كما عدلهم رسوله -صلى الله عليه وسلم- وبين منزلتهم، ودعا إلى حفظ حقهم وإكرامهم، وعدم إيذائهم بقول أو فعل، فقال -صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيحين: خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم. وقال: لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه. أخرجاه في الصحيحين. وقال أيضا: الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضا بعدي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله يوشك أن يأخذه. رواه الترمذي.
والطعن في الصحابة رضي الله عنهم طعن في مقام النبوة والرسالة، فإن كل مسلم يجب أن يعتقد بأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أدى الأمانة وبلغ الرسالة، وقام بما أمره الله به، ومن ذلك أنه بلغ أصحابه العلم وزكاهم ورباهم على عينه. قال -عز وجل-: هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين {الجمعة: 2}.
والحكم بعدالتهم من الدين، ومن الشهادة بأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قام بما أمره الله به، والطعن فيهم يعني الطعن في إمامهم ومربيهم ومعلمهم -صلى الله عليه وسلم-. كما أن الطعن فيهم مدخل للطعن في القرآن الكريم، فأين التواتر في تبليغه؟! وكيف نقطع بذلك إذا كانت عدالة حملته ونقلته مشكوكا فيها؟!
ولقد عد العلماء قديما الطعن في أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- علامة على أن الطاعن من أهل البدع والزندقة الذين يريدون إبطال الشريعة بجرح رواتها. قال أبو زرعة: إذا رأيت الرجل ينتقص أحدا من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فاعلم أنه زنديق، وذلك أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- عندنا حق، والقرآن حق، وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى، وهم زنادقة!!. وعن الإمام أحمد أنه قال: إذا رأيت رجلا يذكر أحدا من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بسوء ـ فاتهمه على الإسلام. اهـ.
وقال الإمام البربهاري: واعلم أن من تناول أحدا من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاعلم أنه إنما أراد محمدا، وقد آذاه في قبره!!. اهـ.
ونحن حينما نصف صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بما هم له أهل، فإنما نريد صحابته المخلصين الذين أخلصوا دينهم، وثبتوا على إيمانهم، ولم يغمطوا بنفاق، ولم يرتدوا ردة لم يتوبوا منها. فالمنافقون الذين كشف الله سترهم، ووقف المسلمون على حقيقة أمرهم، والمرتدون الذين ارتدوا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم أو بعده، ولم يتوبوا أو يرجعوا إلى الإسلام، وماتوا على ردتهم؛ هؤلاء وأولئك لا يدخلون في هذا الوصف إطلاقا، ولا تنطبق عليهم هذه الشروط أبدا، وهم بمعزل عن شرف الصحبة، وبالتالي هم بمعزل عن أن يكونوا من المرادين بقول العلماء والأئمة: "إنهم عدول". وفي تعريف العلماء للصحابي ما يبين ذلك بجلاء، حيث عرفوه بأنه من لقي النبي -صلى الله عليه وسلم- مؤمنا به ومات على ذلك.
ثم هذه الآيات التي ذكرتها أنت، لا تتعارض مع شيء مما ذكرناه، كما نبينه في الأسطر التالية:
1- خبر الإفك، إن هذا الموضوع قد تولى كبره رأس المنافقين عبد الله بن أبي -كما ذكره أهل العلم- عند تفسير قول الله تعالى: والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم. ومع ذلك فنحن نعتبر المشاركة فيه إثما كبيرا، لكن الذين شاركوا في إشاعته من الصحابة قد ثبتت بعد ذلك توبتهم منه. والله تعالى يقول في كتابه العزيز في رمي المحصنات: إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم {النــور: 5}.
2- قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل {التوبة: 38}. لقد كان هذا التثاقل في غزوة تبوك، وكان بعد أن رجع -صلى الله عليه وسلم- من الطائف، وأقام بالمدينة قليلا، ثم استنفر الناس في وقت عسرة وشدة من الحر وجدب من البلاد، وقد أدركت ثمار المدينة وطابت ظلالها مع بعد الشقة وكثرة العدو فشق عليهم الشخوص لذلك. وهم -رضي الله عنهم- بشر كسائر البشر، فلا غرابة مع هذا في أن يطلع الله على تثاقل بعضهم عن الجهاد في ذلك الوقت، فتكون الآية الكريمة حثا لهم وتحريضا على الخروج، وقد امتثلوا للخروج جميعا، ما عدا الثلاثة الذي خلفوا، والذين ظهرت توبتهم بعد ذلك.
3- قوله تعالى: منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة.. {آل عمران:152}. قد بين الله تعالى أن ذلك كان ابتلاء للمسلمين، ثم عفا عنهم ما كان منهم. قال تعالى: ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين {آل عمران:152}.
4- قوله تعالى: إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم {آل عمران:153} ... هو عين الابتلاء الذي تكلمنا عنه في النقطة السابقة. ومثله قوله تعالى في حق أصحاب حنين: لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين.. {التوبة:25}.
5- قوله تعالى: إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله {الحجرات:15}... هذه الصفات هي عين صفات الصحابة -رضي الله عنهم-، ولا يقدح فيها ما حصل في غزوتي أحد وحنين، وقد بينا الحكمة منه، وأنه تعالى قد عفا لهم عن ذلك.
6- قوله تعالى: هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا {الأحزاب:11}... إذا لم يكن دليلا على قوة إيمان الصحابة -رضي الله عنه- فإنه أبعد ما يكون عن الدلالة على ضعف إيمانهم؛ وذلك لأنهم -رغم ما اجتمع عليهم من الكثرة الكاثرة من الشعوب والقبائل الكافرة- قد بقوا صامدين مطمئنين واثقين من النصر، إلا ما حكاه الله عن بعض المنافقين. وهذا الابتلاء الذي وقع لهم في غزوة الأحزاب كانوا قد وعدوا به قبل ذلك. فقد جاء في سورة البقرة قوله تعالى: أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب {البقرة:214}.
7- قوله تعالى: كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون*يجادلونك في الحق بعدما تبين... {الأنفال:5-6}. فهذه المجادلة كانت عندما ندبهم -صلى الله عليه وسلم- إلى العير وفات العير، وأمرهم بالقتال ولم يكن معهم كبير أهبة شق ذلك على بعضهم، وقالوا: لو أخبرتنا بالقتال لأخذنا العدة... فهي -إذا- مجادلة في استراتيجية الحرب، وليس فيها من حرج.
8- قوله تعالى: فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون *يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين {التوبة:95-96}. هذه الآية تتعلق بالمنافقين، ولا علاقة لها بالصحابة إطلاقا، وقد قدمنا من قبل أن المنافقين لا يدخلون في مسمى الصحابة.
هذا القدر يكفي لمن كان له أدنى قدر من الإنصاف. وأما من كان همه الوحيد هو سب الصحابة -رضي الله عنهم- والتنقص منه فإننا لا نستطيع إسماعه؛ لأن الله تعالى قد أصمه عن الحق. قال تعالى: إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين *وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون {النمل:80-81}.
وننبه أمثال هؤلاء بأنهم لا يضرون إلا أنفسهم، فمكرهم السيئ عائد عليهم فقط، والله -جل وعلا- يقول: ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله {فاطر:43}. ويصدق عليهم قول القائل في الوعل الذي ينطح الصخر:
كناطح صخرة يوما ليوهنها فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل.
والله أعلم.