الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فنسأل الله لنا ولك العفو والعافية في الدنيا والآخرة، وأن يجنبنا مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن .. ثم اعلم أخي الكريم أن المعتبر في حالك هذا هو قدرتك على إقامة شعائر دينك، وأمنك من الفتنة على نفسك وأهلك.
قال الشافعي في كتاب الأم: دلت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن فرض الهجرة على من أطاقها إنما هو على من فتن عن دينه بالبلد الذي يسلم بها. اهـ.
ولا فرق في هذا الحكم بين بلاد الكفر وبين بلاد الإسلام التي يغلب عليها الشر والفساد، وتشيع فيها الفواحش.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى: المساكن بحسب سكانها، فهجرة الإنسان من مكان الكفر والمعاصي إلى مكان الإيمان والطاعة ، كتوبته وانتقاله من الكفر والمعصية إلى الإيمان والطاعة ، وهذا أمر باق إلى يوم القيامة ، والله تعالى قال: (والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم) اهـ.
فإن كنت لا تأمن على نفسك أو أهلك الفتنة في الدين، ولا تستطيع إقامة شعائر دينك، وتستطيع أن تهاجر، وجبت عليك الهجرة، وإن كنت لا تستطيع فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها. قال تعالى: إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا * فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا. {النساء:89،90}
وعليك عندئذ أن تتقي الله ما استطعت ، وتسأله الثبات والعفو والعافية، حتى يجعل الله لك فرجا ومخرجا. وعليك أن تعتني بأهلك وتأخذ بأيديهم إلى الاستقامة بقدر طاقتك.
فليزمك غض البصر عن العورات، والبعد عن مخالطة الأجنبيات ما أمكن، وكذلك زوجتك يلزمها الحذر من المخالطة للرجال الأجانب بقدر الاستطاعة، وإن احتاجت لهذا العمل ولم تجد غيره فعليها التزام الحجاب وتجنب الخلوة بأجنبي عنها. نسأل الله أن ييسر أمركم.
ولمزيد الفائدة حول الهجرة من دار المعاصي إليك ما جاء في الموسوعة الفقهية عن حكم الهجرة من بلد تجترح فيها المعاصي: اختلف الفقهاء في هذه المسألة على أقوال:
* الأول للمالكية وهو قول عطاء: وهو وجوب الهجرة من الأرض التي يعمل فيها بالمعاصي. حيث قال سعيد بن جبير في قوله تعالى: (إن أرضي واسعة) إذا عمل فيها بالمعاصي فاخرج منها.
قال ابن القاسم : سمعت مالكا يقول : لا يحل لأحد أن يقيم ببلد يسب فيه السلف.
* الثاني للشافعية: وهو أن كل من أظهر حقا ببلدة من بلاد الإسلام ولم يقبل منه ولم يقدر على إظهاره ، أو خاف فتنة فيه ، فتجب عليه الهجرة منه. قال الرملي: لأن المقام على مشاهدة المنكر منكر، ولأنه قد يبعث على الرضا بذلك. ويوافقه قول البغوي أنه يجب على كل من كان ببلد تعمل فيه المعاصي ولا يمكنه تغييرها الهجرة إلى حيث تتهيأ له العبادة ، لقوله تعالى: (فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين). هو قول الإمام القرطبي في تذكرته . حكاه صديق حسن خان في (العبرة مما جاء في الغزو والشهادة والهجرة).
وقد ذكر الهيتمي في التحفة أن الذي ينبغي اعتماده في ذلك أن المعاصي المجمع عليها إذا ظهرت في بلد بحيث لا يستحيي أهله كلهم من ذلك، لتركهم إزالتها مع القدرة، فتجب الهجرة منه؛ لأن الإقامة حينئذ معهم تعد إعانة وتقريرا لهم على المعاصي، بشرط ألا يكون عليه مشقة في ذلك، وأن يقدر على الانتقال لبلد سالمة من ذلك، وألا يكون في إقامته مصلحة للمسلمين، وأن تكون عنده المؤن المعتبرة في الحج.
* الثالث للحنابلة: وهو أن الهجرة لا تجب من بين أهل المعاصي.
* الرابع للملا علي القاري : وهو أن الهجرة من الوطن الذي يهجر فيه المعروف، ويشيع فيها المنكر، وترتكب فيه المعاصي مندوبة اهـ.
وقد سبقت بعض الفتاوى عن الهجرة من دار الفسق والمعاصي والبدعة: 48193 ،25370.
والله أعلم.