الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإن من لا يتمكن من إقامة شعائر دينه في بلده وجبت عليه الهجرة إلى بلد يتمكن فيها من ذلك إن قدر، وإلا فلا تجب، وعندئذ يقيم من شعائر دينه ما يستطيع على الوجه الممكن، ولا يسقط عنه ما قدر عليه بعجزه عما لا يستطيع، فالصلاة في البيوت أو في مكان مستتر لا تسقط بالعجز عن التأذين لها وإقامتها في الجماعة وقس على ذلك، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها.
وأما من يتمكن من إقامتها في ديار الكفر، فلا تجب الهجرة في حقه، بل قد تكره، وذلك لمن كان عنده علم راسخ وإيمان ثابت فإقامته من أجل الدعوة إلى الله عز وجل وتعليم الناس الخير أفضل، بشرط أن يأمن على نفسه وأهله الفتنة والوقوع في المنكرات.
وقد سبق بيان ذلك في عدة فتاوى منها الفتاوى ذات الأرقام التالية: 17898، 16686، 12829، 64452.
وحيث ذكر السائل الكريم أنهم من المنطقة المحتلة من قبل الصين، فإن كانت هذه المنطقة قبل الاحتلال دار إسلام، وهي الدار التي تجري فيها أحكام الإسلام وتكون القوة والمنعة فيها للمسلمين، كما سبق بيانه في الفتويين: 7517، 42755. فقد اختلف الفقهاء في تحول دار الإسلام إلى دار كفر، فقال الشافعية: لا تصير دار الإسلام دار كفر بحال من الأحوال، وإن استولى عليها الكفار وأجلوا المسلمين عنها وأظهروا فيها أحكامهم. لخبر: الإسلام يعلو ولا يعلى عليه.
وقال المالكية، والحنابلة، وصاحبا أبي حنيفة أبو يوسف، ومحمد تصير دار الإسلام دار كفر بظهور أحكام الكفر فيها.
وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا تصير دار كفر إلا بثلاث شرائط:
1 - ظهور أحكام الكفر فيها.
2 - أن تكون متاخمة لدار الكفر.
3 - أن لا يبقى فيها مسلم ، ولا ذمي آمنا بالأمان الأول ، وهو أمان المسلمين.
ووجه قول الصاحبين ومن معهما أن دار الإسلام ودار الكفر أضيفتا إلى الإسلام وإلى الكفر لظهور الإسلام أو الكفر فيهما، كما تسمى الجنة دار السلام، والنار دار البوار، لوجود السلامة في الجنة والبوار في النار، وظهور الإسلام والكفر إنما هو بظهور أحكامهما، فإذا ظهرت أحكام الكفر في دار فقد صارت دار كفر، فصحت الإضافة، ولهذا صارت الدار دار إسلام بظهور أحكام الإسلام فيها من غير شريطة أخرى، فكذا تصير دار كفر بظهور أحكام الكفر فيها.
ووجه قول أبي حنيفة: أن المقصود من إضافة الدار إلى الإسلام والكفر ليس هو عين الإسلام والكفر، وإنما المقصود هو: الأمن والخوف، ومعناه: أن الأمن إن كان للمسلمين في الدار على الإطلاق والخوف لغيرهم على الإطلاق فهي دار إسلام، وإن كان الأمن فيها لغير المسلمين على الإطلاق والخوف للمسلمين على الإطلاق فهي دار كفر، فالأحكام عنده مبنية على الأمان والخوف، لا على الإسلام والكفر، فكان اعتبار الأمن والخوف أولى .
وألحق بعض الحنابلة بدار الحرب في الحكم بوجوب الهجرة منها على من أطاقها ولم يقدر على إظهار دينه في إقامته بها: دار البغاة ودار البدعة.
ويرى المالكية أن الهجرة من أرض الحرام والباطل بظلم أو فتنة فريضة إلى يوم القيامة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن. رواه البخاري.
وقد روى أشهب عن مالك أنه قال: لا يقيم أحد في موضع يعمل فيه بغير الحق. قال ابن العربي: فإن قيل: فإذا لم يوجد بلد إلا كذلك ؟ قلنا: يختار المرء أقلها إثما.
وقال النووي في روضةالطالبين: إن كان يقدر على إظهار الدين لكونه مطاعا في قومه أو لأن له هناك عشيرة يحمونه ولم يخف فتنة في دينه لم تجب الهجرة لكن تستحب لئلا يكثر سوادهم أو يميل إليهم أو يكيدوا له. وقيل: تجب الهجرة. حكاه الإمام والصحيح الأول. قلت: قال صاحب الحاوي: فإن كان يرجو ظهور الإسلام هناك بمقامه فالأفضل أن يقيم. قال: وإن قدر على الامتناع في دار الحرب والاعتزال وجب عليه المقام بها، لأن موضعه دار إسلام فلو هاجر لصار دار حرب فيحرم ذلك. ثم إن قدر على قتال الكفار ودعائهم إلى الإسلام لزمه وإلا فلا.
وهذا الذي نقله النووي ذكره الماوردي بتفصيل في الحاوي الكبير، وذكره جماعة من الشافعية كالرملي في نهاية المحتاج وزكريا الأنصاري في شرح المنهج .
والخلاصة: أن تحول دار الإسلام إلى دار كفر وقع فيه الخلاف السابق بين أهل العلم، والجمهور على أن ذلك يكون بظهور أحكام الكفر فيها، وهذا هو الظاهر. وعليه فحكم الهجرة الذي أسلفناه يجري عليكم، حيث ذكر السائل بطش الشيوعيين بهم وإرادة إبادتهم وإبعادهم عن دينهم بالقوة. والله المستعان.
وبالنسبة للعمل في المحاكم الوضعية في الدول الشيوعية فإنه أمر ظاهر الحرمة، لما فيه من محادة لله ولشرعه ودينه، وإقرار بحكم الطاغوت الذي أمرنا أن نكفر به. والأجرة المأخوذة على ذلك العمل حرام، لما في ذلك من المعاونة على الباطل، وقد قال الله تعالى: ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب {المائدة:2}.
وقد سبق بيان ذلك في عدة فتاوى، منها الفتاوى ذات الأرقام التالية: 60054، 56015، 17605 ، 6072.
ولا يجوز كذلك العمل في أي وظيفة تمنع المسلم من واجبات دينه كالصلاة والصيام، اللهم إلا لمن يضطر إلى ذلك اضطرارا حقيقيا، كأن يخشى على نفسه أو من يعول الموت جوعا.
وأما صراع الحكومة مع المسلمين الذي يؤدي خطره وجرمه إلى القتل والسجن، كما ورد في السؤال، فهذا مما يحل به العمل بالرخصة، ويوصف صاحبه بالاضطرار.
فإن كان ترك الوظيفة أو الدراسة يؤدي إلى القتل أو السجن وما أشبه ذلك، جاز البقاء فيهما بالقدر الذي تندفع به المحنة والشدة، فإن الضرورة تقدر بقدرها، ولا شك أن هذا مما يتأكد به حكم الهجرة السالفة الذكر.
والله أعلم.