السؤال
أريد رأي الإمام أبي حنيفة وباقي أئمة المذاهب الأربعة في مسألة سفر المسلم إلى بلاد الكفر بحثا عن الرزق وحياة أفضل، بنية الهجرة الدائمة وعدم الرجوع إلى بلاده..
وجزاكم الله خيرا.
أريد رأي الإمام أبي حنيفة وباقي أئمة المذاهب الأربعة في مسألة سفر المسلم إلى بلاد الكفر بحثا عن الرزق وحياة أفضل، بنية الهجرة الدائمة وعدم الرجوع إلى بلاده..
وجزاكم الله خيرا.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد: فالأئمة الذين طلب السائل قولهم لم يتكلموا عن مسألته التي يسأل عنها لأنها لم تكن موجودة على زمانهم وإنما يذكرون حكم هجرة المسلم من دار الحرب إلى دار الإسلام، ويمكن أن يستفاد منه حكم المسألة، فإذا عرف عن أحدهم أنه يوجب هذه الهجرة فيلزم من ذلك أنه يحرم الهجرة العكسية.
وقد نقل الونشريسي عن القاضي أبي الوليد بن رشد قوله: إذا وجب بالكتاب والسنة وإجماع الأمة على من أسلم بدار الحرب أن يهجرها ويلحق بدار المسلمين ولا يثوي بين المشركين ويقيم بين أظهرهم لئلا تجري عليهم أحكامهم فكيف يباح لأحد الدخول إلى بلادهم حيث تجري عليه أحكامهم في تجارة أو غيرها، وقد كره مالك رحمه الله أن يسكن أحد ببلد يسب فيه السلف فكيف ببلد يكفر فيه بالرحمن وتعبد فيه من دونه الأوثان، لا تستقر نفس أحد على هذا إلا مسلم مريض الإيمان. اهـ.
ثم قال: فإن قلت المستفاد من كلام صاحب المقدمات وغيره من الفقهاء المتقدمين صورة طروء الإسلام على الإقامة بين أظهر المشركين والصورة المسؤول عنها هي صورة طروء الإقامة على أصالة الإسلام وبين الصورتين بون بعيد فلا يحسن الاستدلال به على الصورة المسؤول الآن عن حكمها.
قلت: تفقه المتقدمين إنما كان في تارك الهجرة مطلقا ومثلوا ذلك بصورة من صوره وهو من أسلم في دار الحرب وأقام وهذه المسؤول عنها أيضا صورة ثانية من صوره لا تخالف الأولى المتمثل بها إلا في طروء الإقامة والصورة الثانية الملحقة بها المسؤول عنها طرأت الإقامة فيها على الإسلام، واختلاف الطروء فرق صوري وهو غير معتبر في استدعاء نص قصر الحكم عليه وانتهائه إليه، وإنما خص من تقدم من أئمة الهدى المقتدى بهم الكلام بصورة من أسلم ولم يهاجر لأن هذه الموالاة الشركية كانت مفقودة في صدر الإسلام وعزته ولم تحدث على ما قيل إلا بعد مضي مئين من السنين وبعد انقراض أئمة الأمصار المجتهدين فلذلك لا شك لم يتعرض لأحكامها الفقهية أحد منهم. من أسنى المتاجر وبيان أحكام من غلب على وطنه النصارى ولم يهاجر وما يترتب عليه من العقوبات والزواجر. ص: 9، 10.
وبهذا يتضح أن عدم نص الأئمة على حكم هجرة المسلم إلى بلاد الكفر لأجل الإقامة سببه عدم وقوع هذه المسألة في زمانهم وكما قدمنا أن هذه المسألة يمكن تفريعها على حكم الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، فمن أوجب الهجرة من دار الكفر حرم الهجرة إليها من باب أولى.
وذهب الشافعية والحنابلة كما في روضة الطالبين 3/282 ونهاية المحتاج 8/77 والمغني 8/457 إلى التفصيل فقالوا: إن كان المسلم قادرا على إظهار دينه في دار الكفر ولم يخف الفتنة في الدين فالهجرة في حقه غير واجبة ولكنها مستحبة لئلا يكثر سواد الكفار وليتخلص من مخالطتهم ورؤية المنكر بينهم وليتمكن من جهادهم ولأنه لا يؤمن أن يميل إليهم أو يكيدوا له، وليكثر المسلمين ويعينهم بهجرته إليهم، أما عدم وجوبها عليه فلإمكانه إقامة واجب دينه بدون الهجرة.
أما مذهب الإمام أبي حنيفة في حكم هذه الهجرة فهو أنها كانت واجبة قبل فتح مكة ثم نسخ الوجوب بقول النبي صلى الله عليه وسلم: لا هجرة بعد الفتح. نص على ذلك السرخسي في المبسوط 10/6 والكاساني في بدائع الصنائع: 1/388، وابن نجيم في البحر الرائق.
وأما مذهب الإمام مالك فقد تبين مما سبق نقله عن ابن رشد والونشريسي أن الهجرة عندهم واجبة، فهذه هي مذاهب أهل العلم في ما يتعلق بما ورد في السؤال.
وخلاصتها أن جواز هذه الإقامة موقوف على القدرة على إظهار شعائر الدين وأمن الفتنة وإن كان الأفضل بلا خلاف هو الإقامة بين المسلمين، وقد سبقت الإجابة عن محتوى هذا السؤال ضمن الفتاوى التالية أرقامها: 2007، 12829، 64452.
وفي بحث مقدم لنيل درجة الماجستير في الفقه وأصوله للباحثة فلة زرودومي بعنوان: فقه السياسة الشرعية للأقليات المسلمة. ص 153: 180.
جاء فيه المسألة التالية: هل يجوز للمسلم أن يذهب إلى بلاد غير مسلمة للإقامة بها أو هل يجوز للذي من دار الكفر أصالة بعد إسلامه أن يبقى فيها أم تجب عليه الهجرة والسؤالان لا فارق بينهما. يقول الونشريسي المالكي أثناء تعقيبه على صاحب المقدمات والممهدات. فالصورة الأولى الممثل بها عندهم طرأ الإسلام فيها على الإقامة والصورة الثانية الملحقة بها طرأت الإقامة فيها على الإسلام واختلاف الطروء فرق صوري.
وقالت الباحثة في تحرير محل النزاع: من خلال تتبع المسألة في أمهات الكتب الفقهية تبين ما يلي:
1- إذا استوت جميع البلاد في عدم إظهار الدين وفي الظلم والمعاصي فلا وجوب للهجرة بلا خلاف.
2- إذا فتن المسلم في دينه واضطهد وكان قادرا على الهجرة وجبت عليه الهجرة وإذا لم يقدر سقط عنه الوجوب.
3- الخلاف حول أن يقيم المسلم في بلاد غير مسلمة دار الكفر آمنا على نفسه من الفتنة في الدين والنفس والمال هل تجب عليه الهجرة أم لا.
وقد اختلف في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: الأصل هو تحريم الإقامة في بلاد الكفر أو دار الحرب، به قال المالكية (المقدمات والممهدات لابن رشد 2/151، المعيار المغرب 2/121، أسنى المتاجر ص 4) وابن حزم من الظاهرية (المحلي 5/419) وبعض المعاصرين كشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب (عيون الرسائل 1/213، 214، 234).
القول الثاني: جواز الإقامة في دار الكفر إذا أمن من الفتنة انطلاقا من أن الأصل الإباحة، وإلى هذا ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والحنابلة وبعض المالكية. (الحاوي الكبير للماوردي 14/123، 104، المغني لابن قدامة 10/151 مطالب أولي النهى للرحيباني 2/511، النوازل الجديدة الكبرى للوزاني 3/33).
وقد استعرضت الباحثة أدلة القولين وناقشتها ويمكن الرجوع لأصل الرسالة للتوسع في ذلك، ورجحت قول الجمهور وبينت أنه يجمع به بين الأدلة، وقالت: الجمع هنا متيسر وأدلة الفريق الأول لا يختلف حولها الفريق الثاني، فأدلتهم غير واردة على محل النزاع الحقيق، لأن الفريق الثاني متفق مع الأول في النقاط جميعا إلا في جواز الإقامة في دار الكفر إذا توفر الأمن وتمكن من إظهار دينه.
والله أعلم.