الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
وبعد فقد روى البخاري ومسلم عن عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب، قال النبي صلى الله عليه وسلم: هلم أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده . فقال عمر إن النبي صلى الله عليه وسلم قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله. فاختلف أهل البيت فاختصموا، منهم من يقول: قربوا يكتب لكم النبي صلى الله عليه وسلم كتابا لن تضلوا بعده، ومنهم من يقول ما قال عمر، فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند النبي صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قوموا.
وسياق الحديث يرد على تحامل السائل على عمر رضي الله عنه؛ فإنه ليس في قول عمر هذا أي اعتراض على رسول الله وعدم امتثال أمره كما توهم هو.
وبيان هذا من عدة وجوه:
الوجه الأول: أنه ظهر لعمر رضي الله عنه ومن كان على رأيه من الصحابة، أن أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بكتابة الكتاب ليس على الوجوب، وأنه من باب الإرشاد إلى الأصلح، وقد نبه على هذا القاضي عياض، والقرطبي، والنووي، وابن حجر.
ثم إنه قد ثبت بعد هذا صحة اجتهاد عمر رضي الله عنه، وذلك بترك الرسول عليه الصلاة والسلام كتابة الكتاب، ولو كان واجبا لم يتركه لاختلافهم، ولا يعقل أن يكون الرسول ترك أمرا واجبا وقصر في أدائه، كيف وهو المبلغ عن ربه قوله تعالى: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا {المائدة:3}
فلو كان الرسول عليه الصلاة والسلام أمر بكتابة الكتاب، ما كان ليتركه لمخالفة من خالف، كما أنه لم يترك الدعوة في بداية عهدها لمعارضة قومه وشدة أذيتهم له، بل بلغ ما أمر به، وما ثناه ذلك عن دعوته، حتى هلك من هلك عن بينة، وحيي من حيي عن بينة.
فظهر بهذا أن كتابة الكتاب لم تكن واجبة عليه، وإلا ما تركها، وقد نص على ذلك العلماء كشيخ الإسلام ابن تيمية وابن حجر -رحمهما الله-. وحينئذ يكون توجيه إرادته له أولا، ثم تركه له بعد ذلك ما ذكره النووي حيث قال: كان النبي هم بالكتاب حين ظهر له أنه مصلحة، أو أوحي إليه ذلك، ثم ظهر أن المصلحة تركه، أو أوحي إليه بذلك ونسخ ذلك الأمر الأول.
الوجه الثاني: أن قول عمر رضي الله عنه: حسبنا كتاب الله، رد على من نازعه لا على أمر النبي عليه الصلاة والسلام. وهذا ظاهر من قوله: عندكم كتاب الله فإن المخاطب جمع وهم المخالفون لعمر رضي الله عنه في رأيه.
الوجه الثالث: أن عمر رضي الله عنه كان بعيد النظر، ثاقب البصيرة، سديد الرأي، وقد رأى أن الأولى ترك كتابة الكتاب -بعد أن تقرر عنده أن الأمر به ليس على الوجوب- وذلك لمصلحة شرعية راجحة للعلماء في توجيهها أقوال: فقيل: شفقته على رسول الله عليه الصلاة والسلام مما يلحقه من كتابة الكتاب مع شدة المرض، ويشهد لهذا قوله: إن رسول الله عليه الصلاة والسلام قد غلبه الوجع فكره أن يتكلف رسول الله عليه الصلاة والسلام ما يشق ويثقل عليه، مع استحضاره قوله تعالى: ما فرطنا في الكتاب من شيء {الأنعام: 38}، وقوله: تبيانا لكل شيء.{النحل: 89}
وقيل: إنه خشي تطرق المنافقين، ومن في قلبه مرض، لما كتب في ذلك الكتاب في الخلوة، وأن يتقولوا في ذلك الأقاويل، نص على ذلك القاضي عياض وغيره من أهل العلم.
وقيل: إنه خشي أن يكتب أمورا ربما عجزوا عنها فاستحقوا العقوبة لكونها منصوصة، ورأى أن الأرفق بالأمة في تلك الأمور سعة الاجتهاد، لما فيه من الأجر والتوسعة على الأمة.
ولا يبعد أن يكون عمر رضي الله عنه لاحظ هذه الأمور كلها، أو كان لاجتهاده وجوه أخرى لم يطلع عليها العلماء، كما خفيت قبل ذلك على من كان خالفه من الصحابة، ووافقه عليها الرسول عليه الصلاة والسلام بتركه كتابة الكتاب، ولهذا عد العلماء هذه الحادثة من دلائل فقهه ودقة نظره.
قال النووي: وأما كلام عمر رضي الله عنه فقد اتفق العلماء المتكلمون في شرح الحديث، على أنه من دلائل فقه عمر، وفضائله، ودقيق نظره.
الوجه الرابع: أن عمر رضي الله عنه كان مجتهدا في موقفه من كتابة الكتاب، والمجتهد في الدين معذور على كل حال، بل مأجور لقول النبي عليه الصلاة والسلام : إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم اخطأ فله أجر رواه البخاري ومسلم.
فكيف وقد كان اجتهاد عمر بحضور رسول الله عليه الصلاة والسلام فلم يؤثمه، ولم يذمه به، بل وافقه على ما أراد من ترك كتابة الكتاب، ومن ثم عد ذلك من موافقاته رضي الله عنه.
وبهذا يظهر بطلان طعن السائل في عمر رضي الله عنه وعن جميع الصحابة في هذه الحادثة، وبيان توجيه مواقفهم التوجيه الصحيح اللائق بمقاماتهم العظيمة في الدين من خلال النصوص وكلام أهل العلم.
ويراجع في ذلك منهاج السنة النبوية ابن تيمية، والشفا للقاضي عياض ، وشرح صحيح مسلم للنووي، وفتح الباري لابن حجر،
وبالنسبة لوصف النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكونه سيد الكون فراجع فيه الفتوى رقم: 63515.
وننصح السائل بأن يخلص لله في تحريه الحق، وأن يجعل غايته رضا الله عز وجل عنه، وليس التعصب لمذهب ما واحتقار أهل مذهب آخر. هدانا الله جميعا إلى صراطه المستقيم.
والله أعلم.