الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
أخرج الشيخان من
حديث عائشة قالت: دخل أبو بكر، وعندي جاريتان من جواري الأنصار، تغنيان بما تقاولت الأنصار يوم بعاث قالت: وليستا بمغنيتين، فقال أبو بكر: أمزامير الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وذلك في يوم عيد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر إن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا.
وقد تكلم ابن رجب في شرح البخاري على هذا الحديث فذكر أن الجاريتين كانتا تغنيان بشعر فيه مراثي القتلى يوم بعاث، وأن المراد بالغناء رفع الصوت مع الترديد ولم تكن فيه دعوة للفجور ولم تصحبه موسيقى. قال ابن رجب: في هذا الحديث: الرخصة للجواري في يوم العيد في اللعب والغناء بغناء الأعراب، وإن سمع ذلك النساء والرجال، وإن كان معه دف مثل دف العرب، وهو يشبه الغربال، ولا ريب أن العرب كان لهم غناء يتغنون به وكان لهم دفوف يضربون بها، وكان غناؤهم بأشعار أهل الجاهلية من ذكر الحروب وندب من قتل فيها، وكانت دفوفهم مثل الغرابيل ليس فيها جلاجل، كما في حديث عائشة عن النبي، فكان النبي يرخص لهم في أوقات الأفراح كالأعياد والنكاح وقدوم الغياب في الضرب للجواري بالدفوف والتغني مع ذلك بهذه الأشعار وما كان في معناها.
فلما فتحت بلاد فارس والروم ظهر للصحابة ما كان أهل فارس والروم قد اعتادوه من الغناء الملحن بالإيقاعات الموزونة على طريقة الموسيقى بالأشعار التي توصف فيها المحرمات من الخمور والصور الجميلة المثيرة للهوى الكامن في النفوس المجبول محبته فيها بآلات اللهو المطربة المخرج سماعها عن الاعتدال، فحينئذ أنكر الصحابة الغناء واستماعه ونهوا عنه وغلظوا فيه، حتى قال ابن مسعود: الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل. وروي عنه - مرفوعا.
وهذا يدل على أنهم فهموا أن الغناء الذي رخص فيه النبي لأصحابه لم يكن هذا الغناء، ولا آلاته هي هذه الآلات، وأنه إنما رخص فيما كان في عهده مما يتعارفه العرب بآلاتهم.
فأما غناء الأعاجم بآلاتهم فلم تتناوله الرخصة ـ وإن سمي غناء وسميت آلاته دفوفا ـ لكن بينهما من التباين ما لا يخفى على عاقل، فإن غناء الأعاجم بآلاتها يثير الهوى ويغير الطباع ويدعو إلى المعاصي فهو رقية الزنا. وغناء الأعراب ـ المرخص به ـ ليس فيه شيء من هذه المفاسد بالكلية البتة، فلا يدخل غناء الأعاجم في الرخصة لفظا ولا معنى، فإنه ليس هنالك نص عن الشارع بإباحة ما يسمى غناء ولا دفا، وإنما هي قضايا أعيان وقع الإقرار عليها، وليس لها من عموم.
وليس الغناء والدف المرخص فيهما في معنى ما في غناء الأعاجم ودفوفها المصلصلة، لأن غناءهم ودفوفهم تحرك الطباع وتهيجها إلى المحرمات، بخلاف غناء الأعراب، فمن قاس أحدهما على الآخر فقد أخطأ أقبح الخطإ، وقاس مع ظهور الفرق بين الفرع والأصل، فقياسه من أفسد القياس وأبعده عن الصواب.
وقد صحت الأخبار عن النبي بذم من يستمع القينات في آخر الزمان، وهو إشارة إلى تحريم سماع آلات الملاهي الماخوذة عن الأعاجم، وقد بينت عائشة أن الجاريتين إنما كانتا تغنيان بغناء بعاث، ويوم بعاث يوم من أيام حروب الجاهلية مشهور، قال الخطابي: وكان الشعر الذي تغنيان به في وصف الشجاعة والحرب وهو إذا صرف إلى جهاد الكفار كان معونة في أمر الدين، فأما الغناء بذكر الفواحش والابتهار للحرم، فهو المحظور من الغناء، حاشاه أن يجري بحضرته شيء من ذلك فيرضاه، أو يترك النكير له، وكل من جهر بشيء بصوته وصرح به فقد غنى به، قال: وقول عائشة: ليستا بمغنيتين.
إنما بينت ذلك، لأن المغنية التي اتخذت الغناء صناعة وعادة، وذلك لا يليق بحضرته، فأما الترنم بالبيت والتطريب للصوت إذا لم يكن فيه فحش، فهو غير محظور ولا قادح في الشهادة.
وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لا ينكر من الغناء النصب والحداء ونحوهما، وقد رخص فيه غير واحد من السلف.
قال: وقوله: هذا عيدنا. يريد أن إظهار السرور في العيد من شعار الدين، وحكم اليسير من الغناء خلاف الكثير. انتهى.
وهذا من باب المباحات التي تفعل أحيانا للراحة، فأما تغني المؤمن، فإنما ينبغي أن يكون بالقرآن، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ليس منا من لم يتغن بالقرآن.
والمراد: أنه يجعله عوضا عن الغناء فيطرب به ويلتذ ويجد فيه راحة قلبه وغذاء روحه، كما يجد غيره ذلك في الغناء بالشعر، وقد روي هذا المعنى عن ابن مسعود أيضا.
وأما الغناء المهيج للطباع المثير للهوى فلا يباح لرجل ولا لامرأة فعله ولا استماعه، فإنه داع إلى الفسق والفتنة في الدين والفجور فيحرم كما يحرم النظر بشهوة إلى الصور الجميلة، فإن الفتنة تحصل بالنظر وبالسماع، ولهذا جعل النبي صلى الله عليه وسلم زنا العينين النظر وزنا الأذن الاستماع.
ولا خلاف بين العلماء المعتبرين في كراهة الغناء وذمه وذم استماعه ولم يرخص فيه أحد يعتد به، وقد حكيت الرخصة فيه عن بعض المدنيين.
وقد روى الإمام أحمد عن إسحاق الطباع أنه سأل مالكا عما يرخص فيه أهل المدينه من الغناء؟ فقال: إنما يفعله عندنا الفساق.
وقال أحمد: الغناء الذي وردت فيه الرخصة هو غناء الراكب: أتيناكم أتيناكم.
وأما استماع آلات الملاهي المطربة المتلقاة من وضع الأعاجم، فمحرم مجمع على تحريمه، ولا يعلم عن أحد منهم الرخصة في شيء من ذلك، ومن نقل الرخصة فيه عن إمام يعتد به فقد كذب وافترى.
وأما دف الأعراب الخالي من الجلاجل المصوتة ونحوها فقد اختلف العلماء فيه على ثلاثة مذاهب:
أحدها: أنه يرخص فيه مطلقا للنساء. وقد روي عن أحمد ما يشهد له، واختاره طائفة من المتأخرين من أصحابنا كصاحب المغني وغيره.
والثاني: إنما يرخص فيه في الأعراس ونحوها، وهو مروي عن عمر بن عبد العزيز والأوزاعي، وهو قول كثير من أصحابنا أو أكثرهم.
والثالث: أنه لا يرخص فيه بحال، وهو قول النخعي وأبي عبيد وجماعة من أصحاب ابن مسعود كانوا يتبعون الدفوف مع الجواري في الأزقة فيحرقونها.
وقال الحسن: ليس الدف من أمر المسلمين في شيء.
ولعله أراد بذلك دفوف الأعاجم المصلصلة المطربة، وراجع الفتويين التاليتين فقد بينا فيهما أدلة وكلاما مفصلا في الموضوع: 54316، 66001.
والله أعلم.