الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فبداية ننبه على أن المال المستفاد من التجارة في بيع الدخان مال خبيث لا يحل أكله ولا الانتفاع به، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه. رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني.
ويجب التخلص منه بصرفه في أوجه البر أو بذله للفقراء والمساكين، ولمزيد الفائدة نرجو مراجعة الفتوى رقم: 1671.
وأما بخصوص الجواب فنلخص ما يمكن التعرض له في النقاط التالية:
أولا: ينبغي أن يعلم أن الأصل في الضرائب عموما أنها أكل بالباطل لمال المسلم الذي لا يحل إلا بطيب نفس منه، إلا إذا كانت الموارد العامة للدولة لا تفي بحاجة الأمة ومصالحها، وكانت تفرض لسد هذه الحاجة والقيام بتلك المصالح بالفعل، فلا حرج على ولي الأمر في فرضها بالقدر الذي يفي بالغرض دون إجحاف. كما سبق بيانه في الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 592، 65250، 26096، 5811.
ولا يخفى أن هذا الحكم مختص بالضرائب على البضائع التي يحل الاتجار فيها، وإلا فلا يخفى أنه يلزم الدولة المسلمة أن تمنع الاتجار في المحرمات أصلا، فقد قال الله تعالى: ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز * الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور. {الحج: 40-41}. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان. رواه مسلم.
ومعلوم أن قبول ضريبة على سلعة ما، يعني إقرار الاتجار بها. ولذلك نقول: إن أصحاب هذه الأموال المحرمة لو بذلوها للإمام طواعية على أنها ضريبة على تجارتهم، لم يكن له أن يقبلها بهذا الوصف، بل يجب عليه أن ينهاهم عن هذا الكسب الحرام، ففي صحيح البخاري أن المغيرة بن شعبة صحب قوما في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم ثم جاء فأسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما الإسلام فأقبل، وأما المال فلست منه في شيء.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى: ما في الوجود من الأموال المغصوبة والمقبوضة بعقود لا تباح بالقبض، إن عرفه المسلم اجتنبه. اهـ.
ثانيا: ما تم جمعه بالفعل بهذه الطريقة المحرمة، لا يصح إرجاعه لأصحابه، لأن في إرجاعه إليهم إعانة لهم على منكرهم، وإذا كان الأمر كذلك فإن سبيل هذه الأموال هو صرفه في أوجه البر أو بذله للمستحقين من الفقراء والمساكين، وراجع في ذلك الفتوى رقم: 41720.
ثالثا: لو قبلت الدولة مثل هذه الأموال المحرمة، فهذا لا يعني حرمة التوظف عندها، لأن أموال خزانتها فيها الحلال مع الحرام، فهي مختلطة، ومعاملة حائز المال الحرام، منها المحرم، ومنها المكروه. فتحرم إذا كانت في عين المال الحرام، وتكره إذا كان ماله مختلطا دون تمييز بين حلاله وحرامه، وقد سبق تفصيل ذلك في عدة فتاوى، منها الفتاوى التالي أرقامها: 7707، 70068، 27917، 65355.
وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن الذين غالب أموالهم حرام مثل المكاسين وأكلة الربا وأشباههم.. فهل يحل أخذ طعامهم بالمعاملة أم لا؟ فأجاب: الحمد لله، إذا كان في أموالهم حلال وحرام ففي معاملتهم شبهة لا يحكم بالتحريم إلا إذا عرف أنه يعطيه ما يحرم إعطاؤه، ولا يحكم بالتحليل إلا إذا عرف أنه أعطاه من الحلال، فإن كان الحلال هو الأغلب لم يحكم بتحريم المعاملة، وإن كان الحرام هو الأغلب، قيل: بحل المعاملة. وقيل: بل هي محرمة.
رابعا: بالنسبة لمسألة فقر الموارد الاقتصادية، وكون الضرائب المورد هي الوحيد للدولة، فهذا يعني جواز فرضها على وجه مشروع، ولكن لا يعني قبول المنكرات والاتجار في المحرمات، وأما الحاجة والعوز الذي تشكو منه الدولة فقد نزل مثلها أو أشد منها على المجتمع المدني بعد الهجرة، ولنا فيهم الأسوة الحسنة، ويكفينا هنا قوله تعالى: وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء إن الله عليم حكيم. {التوبة: 28}.
وأخيرا ننبه على أن مسائل السياسة الشرعية المتعلقة بأمور العامة وعموم الأمة، لا بد فيها من الرجوع إلى الراسخين من أهل العلم، الذين جمعوا بين فقه الشرع، ومعرفة واقع الحال المسؤول عنه بتفصيل، ولا يمكن الاكتفاء في مثل هذه الأمور بمجرد فتوى عامة لا يمكن التعرض فيها لتفاصيل الواقع وملابسات الأحوال. فما ذكرنا هنا إنما هو بمثابة الأصل المجمل، الذي يحتاج لتفصيل وتنزيل على الواقع، وتدقيق يناسب تحقيق المصالح المرعية والمقاصد الشرعية. ونسأل الله تعالى أن يهيئ لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعته ويحكم فيه بكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
والله أعلم.