السؤال
هل يجوز أن نقول إن الله جالس على عرشه؟، وهل الرحمن مماس للعرش؟، والكرسي هو موضع قدمي الرب جل وعلا كما فسره ابن عباس رضي الله عنه بذلك. فهل قدمي الرب مماسة للكرسي؟
هل يجوز أن نقول إن الله جالس على عرشه؟، وهل الرحمن مماس للعرش؟، والكرسي هو موضع قدمي الرب جل وعلا كما فسره ابن عباس رضي الله عنه بذلك. فهل قدمي الرب مماسة للكرسي؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد: فالذي دلت عليه نصوص الكتاب والسنة وإجماع السلف الصالح أن الله تعالى يوصف بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تشبيه ولا تمثيل، ومن غير تأويل ولا تعطيل. واستواء الله عز وجل على العرش من هذا القبيل، فهو ثابت بالكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، فهم يعتقدون أن الله سبحانه مستو على عرشه استواء يليق بجلاله، ولا يماثل استواء المخلوقين، وأنه بائن من خلقه، وانظر أدلة ذلك في الفتوى رقم: 6707. ومعنى الاستواء عبر عنه أهل العلم بمعان أربعة، وهي: الارتفاع والعلو والصعود والاستقرار. وراجع ذلك في الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 118504، 60784، 76111، 7256. وأمر ثان لابد من بيانه قبل النص على الجواب، وهو أن الصفات أو الألفاظ التي لم يأت الكتاب والسنة بنفيها ولا إثباتها، لم يتعرض لها السلف لا نفيا ولا إثباتا، والقاعدة في ذلك أن يستفصل قائلها، فإن أراد مثبتها معنى صحيحا وافقناه على ذلك المعنى الصحيح، ولم نوافقه على استعمال ذلك اللفظ، وإلا فلا، والأولى هو الإعراض عن هذا اللفظ على كل حال، وقد سبق لنا تفصيل ذلك في الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 120182، 134190،
وإذا عرف هذا، عرف أنه لا يجوز أن نقول: (إن الله جالس على عرشه) !! لأن لفظ الجلوس لم يأت به كتاب ولا سنة. بل إن هذا اللفظ أكثر ما يستعمله المبتدعة للتنفير من إثبات صفة الاستواء نفسها، حيث يفسرون الاستواء بالجلوس، ويقولون إنه من صفات الأجسام والمحدثات، وهذا محال على الله. وهكذا ترد النصوص الشرعية بدعوى مناقضتها للأدلة العقلية، وكأن أهل العلم في عصر النبوة وصدر هذه الأمة لم يكن عندهم من الفهم للنصوص الشرعية ما يفطنون به إلى مناقضة العقل وهكذا يدخل العبد في سلسلة من الانحرافات بسبب هذا الخلط وسوء الفهم عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومثال ذلك ما قاله الإيجي في (المواقف) حيث أصل لضرورة تقديم العقل على النقل وقال: لو وجد ذلك المعارض (العقلي) لقدم على الدليل النقلي قطعا بأن يؤول الدليل النقلي عن معناه إلى معنى آخر. مثاله قوله تعالى: الرحمن على العرش استوى. {طـه:5} فإنه يدل على الجلوس، وقد عارضه الدليل العقلي الدال على استحالة الجلوس في حقه تعالى، فيؤول الاستواء بالاستيلاء أو يجعل الجلوس على العرش كناية عن الملك. اهـ.
ومن ذلك قول الرازي في (تأسيس التقديس) والذي نقله شيخ الإسلام للرد عليه في (بيان تلبيس الجهمية): أن القائلين بكونه جسما مؤلفا من الأجزاء والأبعاض لا يمنعون من جواز الحركة عليه، فإنهم يصفونه بالذهاب والمجيء، فتارة يقولون: إنه جالس على العرش وقدماه على الكرسي !! وهذا هو السكون، وتارة يقولون إنه ينزل إلى السماء الدنيا، وهذا هو الحركة. اهـ.
وهكذا يتيسر نسف كل دليل شرعي، ولو كان قرآنا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه إما بتحريفه وتزييفه، أو بتأويله وتعطيله، وإما بتحميله ما لا يحتمل ولزومه ما لا يلزم من اللوازم الباطلة.
قال الدكتور محمد أمان في كتاب (الصفات الإلهية): خلاصة شبهتهم أنهم تصوروا - خطأ - أن النصوص التي نطقت بأن الله في السماء تدل بظاهرها على أنه تعالى مظروف في جوف السماء فشبهوه بمخلوق داخل مخلوق آخر، كما فهموا - خطأ - أيضا من قوله تعالى: {الرحمن على العرش استوى}. وما في معناه من النصوص أنه تعالى جالس على العرش، وأنه محتاج إليه، فشبهوه بإنسان جالس على سريره، محتاجا إليه، فأرادوا أن يفروا من هذا التشبيه الذي وقعوا فيه لسوء فهمهم، فوقعوا في التعطيل. اهـ.
وأما بخصوص مسألة المماسة للعرش أو الكرسي، فهي من المسألة التي كثر فيها الخوض مع وعورتها، وقد شنع بها طوائف من الناس على شيخ الإسلام ابن تيمية دون أن يتدبروا كلامه، ونسبوه ظلما بسببها إلى التجسيم، وحاشاه من ذلك. فإنه رحمه الله في أكثر المواضع يكون كلامه من باب الرد على أهل البدع، سواء القائلين بالحلول والاتحاد، أو المؤولين للصفات اعتمادا على نفي الجسمية عن الله تعالى. فيحكي أقوال الناس في ذلك وينسبها لقائلها، ومن ذلك قوله في (درء التعارض): الناس لهم في هذا المقام أقوال، منهم من يقول: هو نفسه فوق العرش غير مماس ولا بينه وبين العرش فرجة. وهذا قول ابن كلاب والحارث المحاسبي وأبي العباس القلانسي والأشعري وابن الباقلاني وغير واحد من هؤلاء، وقد وافقهم على ذلك طوائف كثيرة من أصناف العلماء ومن أتباع الأئمة الأربعة وأهل الحديث والصوفية وغيرهم، وهؤلاء يقولون: إنه بذاته فوق العرش وليس بجسم ولا هو محدود ولا متناه.
ومنهم من يقول: هو نفسه فوق العرش، وإن كان موصوفا بقدر لا يعلمه غيره. ثم من هؤلاء من لا يجوز عليه مماسة العرش، ومنهم من يجوز ذلك، وهذا قول أهل الحديث والسنة وكثير من أهل الفقه والصوفية والكلام غير الكرامية، فأما أئمة أهل السنة والحديث وأتباعهم فلا يطلقون لفظ ( الجسم ) نفيا ولا إثباتا. اهـ.
وقال في (بيان تلبيس الجهمية): كونه فوق العرش ثبت بالشرع المتواتر وإجماع سلف الأمة مع دلالة العقل ضرورة ونظرا، أنه خارج العالم، فلا يخلو مع ذلك: إما أن يلزم أن يكون مماسا أو مباينا، أو لا يلزم، فإن لزم أحدهما كان ذلك لازما للحق ولازم الحق حق، وليس في مماسته للعرش ونحوه محذور كما في مماسته لكل مخلوق من النجاسات والشياطين وغير ذلك؛ فإن تنزيهه عن ذلك إنما أثبتناه لوجوب بعد هذه الأشياء عنه وكونها ملعونة مطرودة، لم نثبته لاستحالة المماسة عليه، وتلك الأدلة منتفية في مماسته للعرش ونحوه، كما روي في مس آدم وغيره، وهذا جواب جمهور أهل الحديث وكثير من أهل الكلام. وإن لم يلزم من كونه فوق العرش أن يكون مماسا أو مباينا فقد اندفع السؤال. اهـ.
وقد فصل رحمه الله الكلام في (مجموع الفتاوى) فذكر أن أهل الكلام والنظر يطلقون المباينة بإزاء ثلاثة معان:
ـ أحدها: المباينة المقابلة للمماثلة والمشابهة والمقاربة.
ـ والثاني: المباينة المقابلة للمحايثة والمجامعة والمداخلة والمخارجة والمخالطة.
ـ والثالث: المباينة المقابلة للمماسة والملاصقة؛ فهذه المباينة أخص من التي قبلها؛ فإن ما باين الشيء فلم يداخله قد يكون مماسا له متصلا به وقد يكون منفصلا عنه غير مجاور له.
ثم قال: أما النوع الأول فكما يروى عن الحسن البصري أنه قال: رأيناهم متقاربين في العافية فإذا جاء البلاء تباينوا تباينا عظيما. أي تفاضلوا وتفاوتوا ...
والنوع الثاني فكقول عبد الله بن المبارك لما قيل له: بماذا نعرف ربنا؟ قال: بأنه فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه ولا نقول كما تقول الجهمية: إنه هاهنا. وكذلك قال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه والبخاري وابن خزيمة وعثمان بن سعيد وخلق كثير من أئمة السلف رضي الله عنهم - ولم ينقل عن أحد من السلف خلاف ذلك ...
فالمباينة في كلام هؤلاء الأئمة وأمثالهم لم يريدوا بها عدم المماثلة؛ فإن هذا لم ينازع فيه أحد، ولا ألزموا الناس بأن يقروا بالمباينة الخاصة؛ فإنهم قالوا: بائن من خلقه، ولم يقولوا: بائن من العرش وحده. فجعلوا المباينة بين المخلوقات عموما ودخل في ذلك العرش وغيره فإنه من المخلوقات، فعلم أنهم لم يتعرضوا في هذه المباينة لإثبات ملاصقة ولا نفيها .. اهـ.
وهذا هو الصواب في المسألة، وهو إثبات مباينة الله تعالى لخلقه مطلقا، من غير تقييد بالعرش ولا بغيره، وأن لفظ المماسة لم يرد إثباته ولا نفيه في نصوص الوحي المعصوم، وبالتالي تجري عليه القاعدة التي قدمنها في أول الفتوى. وقد سبق لنا بيان أن الله عز وجل فوق عرشه، بائن عن خلقه، فراجع الفتويين: 6707 ، 66332.
والله أعلم.