الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فعلى طالب العلم الاعتصام بمنهج أهل السنة والجماعة في الاعتقاد والعمل، ولا يلزمه الاطلاع على مقالات المخالفين لهم، فضلاً عن مناظرتهم واستماع شبههم، فإن السلامة لا يعدلها شيء، وقد كان السلف رحمهم الله ينهون أشد النهي عن مجالسة أهل البدع، وإذا مروا بهم وضعوا أصابعهم في آذانهم لئلا يصل إليها شيء من شبههم، وذلك مع علم السلف وفهمهم، فكيف بمن بعدهم؟!
قال ابن القيم في مفتاح دار السعادة: وقال لي شيخ الإسلام رضي الله عنه -وقد جعلت أورد عليه إيراداً بعد إيراد- لا تجعل قلبك للإيرادات والشبهات مثل السفنجة فيتشربها، فلا ينضح إلا بها، ولكن اجعله كالزجاجة المصمتة تمر الشبهات بظاهرها ولا تستقر فيها، فيراها بصفائه ويدفعها بصلابته، وإلا فإذا أشربت قلبك كل شبهة تمر عليها صار مقراً للشبهات -أو كما قال- فما أعلم أني انتفعت بوصية في دفع الشبهات كانتفاعي بذلك، وإنما سميت الشبهة شبهة لاشتباه الحق بالباطل فيها، فإنها تلبس ثوب الحق على جسم الباطل... انتهى.
وقال الإمام مالك: أرأيت إن جاء رجل أجدل من رجل يدع الرجل دينه كل يوم لدين جديد؟!.
وعلى هذا فننصحك بتجنب الجدال مع أهل البدع الاعتقادية، وليسعك التمسك بما أنت عليه من الحق الثابت بالدليل، والذي عليه أئمة أهل السنة من لدن الصحابة رضي الله تعالى عنهم إلى زماننا.
هذا وإن أهل السنة والجماعة يعتقدون أن الله سبحانه وتعالى مستوٍ على عرشه استواءً يليق بجلاله ولا يماثل استواء المخلوقين، وأنه بائن من خلقه، وانظر أدلة ذلك من الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة في الفتوى رقم: 6707.
ومعنى الاستواء عند أهل السنة والجماعة هو: العلو والارتفاع والصعود، وليعلم أنه لا يجوز إبطال دلالة النصوص المثبتة لصفة الاستواء بمجرد أوهام يظن صاحبها أنها دلالات عقلية، إذ إن العقل الصريح لا يعارض النقل الصحيح.
واعلم كذلك أن صفة المكان لم تثبت في الكتاب ولا في السنة، فلا نثبتها ولا ننفيها، والقول بالمكان العدمي لم يسبق إلى إثباته أحد من سلف الأمة، وليسعنا ما وسعهم وإن كان شيخ الإسلام رحمه الله قد عبر بألفاظ مرادفة كالحيز العدمي، فلا ينبغي أن يلجئك النقاش مع المبتدعة إلى تكلف ما ليس لك به علم.
هذا وإن أهل السنة يعتقدون أن الله تعالى فوق خلقه عالٍ عليهم بائن منهم، وهذا إن سماه المبتدعة جهة فإن ذلك لا يزحزحنا عن اعتقاده لتواتر النصوص به، وقد بين شيخ الإسلام في أكثر من موضع من كتبه أن الجهة لفظ مجمل يحتمل حقاً وباطلاً والسبيل فيما هذا شأنه من الألفاظ أن يستفصل عن معناه فإن كان باطلاً رد وإن كان حقاً قبل وعبر عنه باللفظ الشرعي وإليك شيئاً من كلامه رحمه الله فقد قال في منهاج السنة النبوية: وكذلك الكلام في لفظ الجهة فإن مسمى لفظ الجهة يراد به أمر وجودي كالفلك الأعلى ويراد به أمر عدمي كما وراء العالم، فإذا أريد الثاني أمكن أن يقال كل جسم في جهة وإذا أريد الأول امتنع أن يكون كل جسم في جسم آخر.
فمن قال: الباري في جهة وأراد بالجهة أمراً موجوداً فكل ما سواه مخلوق له ومن قال إنه في جهة بهذا التفسير فهو مخطئ، وإن أراد بالجهة أمراً عدمياً وهو ما فوق العالم، وقال إن الله فوق العالم فقد أصاب وليس فوق العالم موجود غيره فلا يكون سبحانه في شيء من الموجودات، وأما إذا فسرت الجهة بالأمر العدمي فالعدم لا شيء، وهذا ونحوه من الاستفسار وبيان ما يراد باللفظ من معنى صحيح وباطل يزيل عامة الشبه. انتهى.
وقال أيضاً في مجموع الفتاوى: وقد أخبرنا أيضاً أنه قد استوى على العرش فهذه النصوص يصدق بعضها بعضا والعقل أيضاً يوافقها ويدل على أنه سبحانه مباين لمخلوقاته فوق سماواته، وأن وجود موجود لا مباين للعالم ولا محايث له محال في بديهة العقل فإذا كانت الرؤية مستلزمة لهذه المعاني فهذا حق وإذا سميتم أنتم هذا قولاً بالجهة وقولا بالتجسيم لم يكن هذا القول نافيا لما علم بالشرع والعقل إذا كان معنى هذا القول والحال هذه ليس منتفياً لا بشرع ولا عقل.
ويقال لهم ما تعنون بأن هذا إثبات للجهة والجهة ممتنعة أتعنون بالجهة أمراً وجودياً أو أمراً عدمياً، فإن أردتم أمراً وجودياً وقد علم أنه ما ثم موجود إلا الخالق والمخلوق والله فوق سماواته بائن من مخلوقاته لم يكن والحالة هذه في جهة موجودة فقولكم إن المرئي لا بد أن يكون في جهة موجودة قول باطل فإن سطح العالم المرئي وليس هو في عالم آخر.
وإن فسرتم الجهة بأمر عدمي كما تقولون إن الجسم في حيز والحيز تقدير مكان وتجعلون ما وراء العالم حيزاً فيقال لكم الجهة والحيز إذا كان أمراً عدمياً فهو لا شيء وما كان في جهة عدمية أو حيز عدمي فليس هو في شيء ولا فرق بين قول القائل هذا ليس في شيء وبين قوله هو في العدم أو أمر عدمي فإذا كان الخالق تعالى مبايناً للمخلوقات عالياً عليها وما ثم موجود إلا الخالق أو المخلوق لم يكن معه غيره من الموجودات فضلاً عن أن يكون هو سبحانه في شيء موجود يحصره أو يحيط به.
فطريقة السلف والأئمة أنهم يراعون المعاني الصحيحة المعلومة بالشرع والعقل ويراعون أيضاً الألفاظ الشرعية فيعبرون بها ما وجدوا إلى ذلك سبيلاً ومن تكلم بما فيه معنى باطل يخالف الكتاب والسنة ردوا عليه ومن تكلم بلفظ مبتدع يحتمل حقاً وباطلاً نسبوه إلى البدعة أيضاً وقالوا إنما قابل بدعة ببدعة ورد باطلا بباطل. انتهى.
وراجع للفائدة تفسير القرطبي رحمه الله لآية الاستواء في سورة الأعراف فإنه نقل اعتقاد السلف وأنه لم ينكر أحد منهم أنه سبحانه استوى على عرشه حقيقة وأنهم لم يقولوا بنفي الجهة بل نطقوا هم والكافة بإثباتها لله تعالى كما نطق كتابه وأخبرت رسله وإنما أحلناك إليها لترى ما نقله عن السلف لا لما يعتقده هو رحمه الله.
وأما العرش، فالصحيح أنه أعلى جميع المخلوقات وهو سقفها، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: والعرش فوق جميع المخلوقات، وهو سقف جنة عدن التي هي أعلى الجنة، كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا سألتم الله فأسألوه الفردوس، فإنه أعلى الجنة، وسقفه عرش الرحمن.
وقال الحافظ ابن كثير في تفسيره: ...هو مالك كل شيء وخالقه، لأنه رب العرش العظيم الذي هو سقف المخلوقات، وجميع الخلائق من السموات والأرضين وما فيهما وما بينهما تحت العرش، مقهورون بقدرة الله تعالى. انتهى.
وأما الجمع بين كون الله مستويا على عرشه وأن عرشه فوق جميع المخلوقات، وبين الحديث الدال على أن الله كتب كتاباً فهو عنده فوق العرش، فلم نجد لأئمة أهل السنة ذكراً لذلك بحسب بحثنا، ونحن نؤمن بكل ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد سمع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الحديث فلم يستشكلوه، فليسعنا ما وسعهم، ولا نخوض فيما ليس لنا به علم، وقد أحسن من انتهى إلى ما سمع.
وأما قول صاحبك (إن رفع النقيضين عما يلزمه الاتصاف بأحدهما هو المحال)، فهذا القول لا يسلم له، فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية في التدمرية: ... وإن كان المخاطب من الغلاة نفاة الأسماء والصفات وقال لا أقول هو موجود ولا حي ولا عليم ولا قدير بل هذه الأسماء لمخلوقاته إذ هي مجاز لأن إثبات ذلك يستلزم التشبيه بالموجود الحي العليم، قيل له وكذلك إذا قلت ليس بموجود ولا حي ولا عليم ولا قدير كان ذلك تشبيها بالمعدومات وذلك أقبح من التشبيه بالموجودات، فإن قال أنا أنفي النفي والإثبات قيل له فيلزمك التشبيه بما اجتمع فيه النقيضان من الممتنعات، فإنه يمتنع أن يكون الشيء موجوداً معدوماً أو لا موجودا ولا معدوما ويمتنع أن يكون يوصف ذلك باجتماع الوجود والعدم أو الحياة والموت أو العلم والجهل أو يوصف بنفي الوجود والعدم ونفي الحياة والموت ونفي العلم والجهل.
فإن قلت إنما يمتنع نفي النقيضين عما يكون قابلا لهما وهذان يتقابلان تقابل العدم والملكة لا تقابل السلب والإيجاب فإن الجدار لا يقال له أعمى ولا بصير ولا حي ولا ميت إذ ليس بقابل لهما، قيل لك أولاً هذا لا يصح في الوجود والعدم فإنهما متقابلان تقابل السلب والإيجاب باتفاق العقلاء فيلزم من رفع أحدهما ثبوت الآخر.
وأما ما ذكرته من الحياة والموت والعلم والجهل فهذا اصطلاح اصطلحت عليه المتفلسفة المشاؤون والاصطلاحات اللفظية ليس دليلاً على نفي الحقائق العقلية وقد قال الله تعالى: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ* أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ. فسمى الجماد ميتاً وهذا مشهور في لغة العرب وغيرهم.
وقيل لك ثانياً فما لا يقبل الاتصاف بالحياة والموت والعمى والبصر ونحو ذلك من المتقابلات أنقص مما يقبل ذلك فالأعمى الذي يقبل الاتصاف بالبصر أكمل من الجماد الذي لا يقبل واحداً منهما، فأنت فررت من تشبيهه بالحيوانات القابلة لصفات الكمال ووصفته بصفات الجامدات التي لا تقبل ذلك، وأيضاً فما لا يقبل الوجود والعدم أعظم امتناعاً من القابل للوجود والعدم بل ومن اجتماع الوجود والعدم ونفيهما جميعاً فما نفيت عنه قبول الوجود والعدم كان أعظم امتناعاً مما نفيت عنه الوجود والعدم، وإذا كان هذا ممتنعاً في صرائح العقول فذاك أعظم امتناعاً فجعلت الوجود الواجب الذي لا يقبل العدم هو أعظم الممتنعات وهذا غاية التناقض والفساد. انتهى.
وقال في موضع آخر من التدمرية: واعلم أن الجهمية المحضة كالقرامطة ومن ضاهاهم ينفون عنه تعالى اتصافه بالنقيضين حتى يقولون ليس بموجود ولا ليس بموجود ولا حي ولا ليس بحي ومعلوم أن الخلو عن النقيضين ممتنع في بدائه العقول كالجمع بين النقيضين.
وآخرون وصفوه بالنفي فقط فقالوا ليس بحي ولا سميع ولا بصير وهؤلاء أعظم كفراً من أولئك من وجه وأولئك أعظم كفراً من هؤلاء من وجه فإذا قيل لهؤلاء هذا مستلزم وصفه بنقيض ذلك كالموت والصمم والبكم، قولوا إنما يلزم ذلك لو كان قابلا لذلك وهذا الاعتذار يزيد قولهم فساداً وكذلك من ضاهى هؤلاء وهم الذين يقولون ليس بداخل العالم ولا خارجه إذا قيل هذا ممتنع في ضرورة العقل، كما إذا قيل ليس بقديم ولا محدث ولا واجب ولا ممكن ولا قائم بنفسه ولا قائم بغيره، قالوا هذا إنما يكون إذا كان قابلا لذلك والقبول إنما يكون من التحيز فإذا انتفى التحيز انتفى قبول هذين المتناقضين فيقال لهم علم الخلق بامتناع الخلو من هذين النقيضين هو علم مطلق لا يستثنى منه موجود. انتهى.
وأما ما نسبه صاحبك لبعض الأئمة كالإمام أبي حنيفة والإمام الشافعي من نفي علو الله ونفي استوائه على العرش، فهذا كذب عليهم، وإن الثابت عنهم عكس ذلك، فقد ذكر الإمام الحافظ الذهبي في كتابه العلو بعض النصوص عن الإمام أبي حنيفة في تكفير من أنكر أن الله في السماء مستو على عرشه، ومنها قوله: بلغنا عن أبي مطيع الحكم بن عبد الله البلخي صاحب (الفقه الأكبر) قال: سألت أبا حنيفة عمن يقول: لا أعرف ربي في السماء، أو في الأرض. فقال: قد كفر، لأن الله تعالى يقول: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى. وعرشه فوق سمواته. فقلت: إنه يقول: أقول على العرش استوى، ولكن قال لا يدري العرش في السماء أو في الأرض. قال: إذا أنكر أنه في السماء فقد كفر. رواها صاحب (الفاروق) بإسناد عن أبي بكر بن نصير بن يحيى عن الحكم.
وسمعت القاضي الإمام تاج الدين عبد الخالق بن علوان قال: سمعت الإمام أبا محمد عبد الله محمد المقدسي مؤلف (المقنع) رحم الله ثراه وجعل الجنة مثواه، يقول: بلغني عن أبي حنيفة رحمه الله أنه قال: من أنكر أن الله عز وجل في السماء فقد كفر. انتهى.
ونقل الإمام ابن القيم في كتابه اجتماع الجيوش الإسلامية نصوصاً للإمام الشافعي تدل على إثباته صفة العلو لله تعالى وأنه سبحانه في السماء مستو على عرشه فقال: قال الإمام ابن الإمام عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي حدثنا أبو شعيب وأبو نور عن أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله تعالى قال: القول في السنة التي أنا عليها ورأيت أصحابنا عليها أهل الحديث الذين رأيتهم وأخذت عنهم مثل سفيان ومالك وغيرهما الإقرار بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وأن الله تعالى على عرشه في سمائه يقرب من خلقه كيف شاء وأن الله تعالى ينزل إلى السماء الدنيا كيف شاء. قال عبد الرحمن وحدثنا يونس بن عبد الأعلى قال: سمعت محمد بن إدريس الشافعي يقول وقد سُئل عن صفات الله وما يؤمن به فقال: لله تعالى أسماء وصفات جاء بها كتابه وأخبر بها نبيه أمته لا يسع أحداً من خلق الله قامت عليه الحجة ردها. لأن القرآن نزل بها وصح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القول (بها) فيما روى عنه العدول، فإن خالف ذلك بعد ثبوت الحجة عليه فهو كافر فأما قبل ثبوت الحجة عليه فمعذور بالجهل، لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل ولا بالروية والقلب ولا نكفر بالجهل بها أحد إلا بعد انتهاء الخبر إليه بها، وتثبيت هذه الصفات وننفي عنها التشبيه كما نفى التشبيه عن نفسه فقال: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ. وصح عن الشافعي أنه قال خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه حق قضاها الله في سمائه وجمع عليها قلوب أصحاب نبيه ومعلوم أن المقضي في الأرض والقضاء فعله سبحانه وتعالى المتضمن لمشيئته وقدرته، وقال في خطبة رسالته: الحمد لله الذي هو كما وصف به نفسه وفوق ما يصفه به خلقه. فجعل صفاته سبحانه إنما تتلقى بالسمع. انتهى.
وللوقوف على مزيد من أقوال السلف في إثبات صفة العلو لله تعالى انظر (العلو للعلي الغفار) للإمام الذهبي أو مختصره للألباني، وانظر (اجتماع الجيوش الإسلامية) لابن القيم.
وأما كتاب (رجم المعتدي) فلا نعلم عنه ولا عن صاحبه شيئاً، وبالنسبة للشيخ عبد الرحمن دمشقية فإنه من الدعاة المعروفين الناصحين الذابين عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن المدافعين عن سنته.
هذا وننصحك بمطالعة كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وخصوصاً (العقيدة الواسطية) و(الفتوى الحموية الكبرى)، وتجد بعض المواقع المختصة ببيان عقيدة السلف والرد على شبهات المخالفين في الفتوى رقم: 56402.
والله أعلم.