السؤال
اختلفت مع بعض أقراني في الحديث عن حكم الغناء، وأنا أوقن أنه ـ بشكله الحالي ـ محرم، لكن أحدهم قال لي: لماذا تحرمون كل شيء؟ فأنتم بهذا تنفرون الناس من الدين، ولم يقتنع بحرمة الغناء بحجة أنه لا يوجد نص واضح وصريح يحرمه، ويقول: أنا أسمع الأغاني ولا يحدث لي ما تحدث عنه هؤلاء المشايخ. أفيدونا جزاكم الله خيرا، وماذا أفعل معه؟.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فههنا أمر ينبغي التنبيه عليه، وهو تذرع كثير ممن أراد مخالفة أوامر الشرع المطهر والتخفف من ربقة التكاليف ووضعها عن كاهله بأن في الإلزام بها تنفيرا من الدين، ومثل هذا غير مقبول البتة، فإنه لو كانت هذه الحجة مسلمة لكان في مكنة كل من أراد استباحة محرم ولو كان مقطوعا بتحريمه أو ترك واجب ولو كان مقطوعا بوجوبه أن يفعل ذلك بدعوى أن تحريم هذا أو إيجاب ذاك يفضي إلى التنفير من التدين، وأيضا فإن أحكام الشرع المطهر ليست مملوكة للناس حتى يبيحوا أو يحرموا، والعلماء إنما يخبرون عن أحكام الله تعالى ويبينونها للناس، فهل كان أئمة الإسلام الذين بينوا حرمة المعازف وآلات اللهو عبر العصور منفرين عن التدين؟ حاشا وكلا، والتكاليف الشرعية فيها مما يخالف أهواء النفوس وشهواتها شيء كثير، وبمخالفة تلك الأهواء يميز الله الخبيث من الطيب، كما قال تعالى: فأما من طغى * وآثر الحياة الدنيا * فإن الجحيم هي المأوى * وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى * فإن الجنة هي المأوى. { النازعات: 41 ـ 40 ـ 39 ـ 38 ـ 37 }.
فالمسلم الصادق هو الذي يترك ما يهواه إذا علم أن فيه سخط ربه تبارك وتعالى، والتنفير لا يكون في تبليغ الأحكام الشرعية على وجهها بالطريقة التي يرضاها الله تعالى ويحبها، فمن بلغ الناس أحكام الشرع بالحكمة والموعظة الحسنة، واستعمل ما أمر به من اللين والرفق في الدعوة والبيان، فأي تنفير في فعله هذا؟ إننا ننهى عن الفظاظة والغلظة ونحذر منها، لما فيها من تنفير المدعوين ونأمر بالرفق واللين، فإن الرفق ما كان في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك لما في الرفق من تأليف القلوب والإقبال بها على الامتثال والانقياد للشرع، ولكننا نحذر كذلك من التهاون في التمسك بأحكام الشرع واتباع الرخص وزلات العلماء بالمزاعم المردودة كدعوى ترك تنفير الناس، وخير الأمور الوسط.
وأما المسألة
التي تناقشت فيها معه: فإننا ننصحك بأن تبين له الحق بلين ورفق وتذكر له الأدلة على التحريم وهي ظاهرة كل الظهور، وتبين له أن هذا هو مذهب الجماهير من العلماء، وهو الذي قامت عليه الأدلة التي لا مدفع لها، قال ابن تيمية ـ رحمه الله: مذهب الأئمة الأربعة: أن آلات اللهو كلها حرام، فقد ثبت في صحيح البخاري وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه سيكون من أمته من يستحل الحر والحرير والخمر والمعازف، وذكر أنهم يمسخون قردة وخنازير.
والمعازف: هي الملاهي كما ذكر ذلك أهل اللغة، جمع معزفة، وهي الآلة التي يعزف بها: أي يصوت بها.
ولم يذكر أحد من أتباع الأئمة في آلات اللهو نزاعا، ولكن تكلموا في الغناء المجرد عن آلات اللهو: هل هو حرام؟ أو مكروه؟ أو مباح؟ وذكر أصحاب أحمد لهم في ذلك ثلاثة أقوال. وذكروا عن الشافعي قولين. ولم يذكروا عن أبي حنيفة ومالك في ذلك نزاعا.
وذكر زكريا بن يحيى الساجي - وهو أحد الأئمة المتقدمين المائلين إلى مذهب الشافعي: أنه لم يخالف في ذلك من الفقهاء المتقدمين إلا إبراهيم بن سعد ـ من أهل البصرة. انتهى بتصرف.
وكلام العلماء في هذا يطول جدا، فكيف يعدل عن الأخذ بمذهب الجماهير الذي دلت عليه النصوص؟ إلى قول شاذ قد أنكره الأئمة وبينوا ضعفه، بل إن من أباحوا المعازف من المتأخرين ضبطوا ذلك بضوابط لا يتصور وجودها في أكثر الموجود من الغناء الحالي، فعليك أن تذكره بتقوى الله تعالى، وأن عليه أن يحتاط لدينه، ويطلب السلامة في العاقبة، وقد عقد ابن القيم فصلا نفيسا في تحريم المعازف وآلات اللهو فانظره، وكذا كتاب تحريم آلات الطرب للألباني فإنه مفيد، وسواء شعر صاحبك بمفاسد الغناء أو لم يشعر، فإن الواجب عليه أن يتركه امتثالا لأمر الله تعالى، فإذا تاب الله عليه منه وخالطت بشاشة الطاعة قلبه فسيعرف أنه كان محروما من خير كثير، وأن عدم شعوره بمفاسد الغناء إنما كان لاستغراق روحه في تلك السكرة التي تحول بينه وبين إدراك الأشياء على حقيقتها.
والله أعلم.