الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فالحديث الذي أشار إليه السائل هو ما رواه الإمام أحمد عن السائب بن يزيد: أن امرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا عائشة أتعرفين هذه؟ قالت: لا يا نبي الله، فقال: هذه قينة بني فلان، تحبين أن تغنيك؟ قالت: نعم، قال: فأعطاها طبقا فغنته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قد نفخ الشيطان في منخريها. قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح. انتهى. وصححه الألباني والأرناؤوط.
ولكنهما نصا على أن النسائي في السنن الكبرى والطبراني في المعجم الكبير قد روياه دون قوله: فأعطاها طبقا ـ وقد حكم الشيخ عبد الله رمضان موسى على هذه العبارة بالشذوذ، وذلك في كتابه الكبير المفيد الذي ضمنه الرد العلمي على أربعة من الكتب المعاصرة في إباحة الغناء والموسيقى، وهو كتاب جامع في بابه والصفحات من: 494 إلى 498 ـ كانت في جواب الدليل التاسع من شبهات المبيحين، وهو هذا الحديث السابق.
ونوصي السائل بالرجوع إلى هذا الكتاب لمدارسة المسألة، حيث ضمنه مؤلفه قواعد في أصول الفقه والحديث واللغة، ينبني عليها الحكم فيها.
وننبه هنا السائل على أن عبارة: فأعطاها طبقا ـ على افتراض أنها محفوظة ـ فليست نصا في ما ذكره السائل من أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاها طبقا لتضرب عليه مع غنائها، بل يحتمل أنه طبق طعام قدمه لها من باب المكافأة أو الهدية، كما يحتمل أن ذلك كان في مناسبة من المناسبات التي يجوز فيها الغناء كالعيد، وقد علق محققوا المسند بإشراف الشيخ شعيب الأرناؤوط على هذا الحديث بقولهم: فيه جواز ذلك على قلة من غير عرس وعيد كما يجوز فيهما، ويحتمل أنها كانت أيام عيد. انتهى.
وكذلك يقال في جواب الاستدلال بهذا الحديث على جواز سماع الرجال لغناء القيان، بأن هذه واقعة عين لا عموم لها، ولا يصح تسوية النبي صلى الله عليه وسلم بغيره، فإنه لم يذكر في هذه الرواية سماع رجل غيره صلى الله عليه وسلم لهذا الغناء، ولا حتى راويه من الصحابة، قال الشيخ الألباني في تخريج هذا الحديث في السلسلة الصحيحة: السائب بن يزيد صحابي صغير، حج به في حجة الوداع وهو ابن سبع سنين، فالظاهر أنه تلقاه عن السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ وقد روى عنها. انتهى.
وواقعة العين هي الحادثة الظنية التي تعارض أصلا أو قاعدة كلية أو أدلة عامة، وتكون محتملة لعدة تأويلات كقصة رضاع سالم مولى أبي حذيفة من سهلة بنت سهيل ـ رضي الله عنهم ـ فلا يصح الاستدلال بها في مسألة رضاع الكبير، والقاعدة في ذلك هي ما ذكره السبكي في الأشباه والنظائر: وقائع الأعيان إذا تطرق إليها الاحتمال كساها ثوب الإجمال سقط بها الاستدلال.
وهذا يشبه جواب أهل العلم على حديث بريدة بن الحصيب قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض مغازيه فلما انصرف جاءت جارية سوداء فقالت: يا رسول الله إني كنت نذرت إن ردك الله سالما أن أضرب بين يديك بالدف وأتغني ـ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن كنت نذرت فاضربي، وإلا فلا. رواه الترمذي وأحمد، وصححه الألباني.
وقال في كتابه تحريم آلات الطرب: ترجم لحديث بريدة هذا جد ابن تيمية ـ رحمهما الله تعالى ـ في المنتقى من أخبار المصطفى بقوله: باب ضرب النساء بالدف لقدوم الغائب وما في معناه ـ قلت: وفي الاستدلال بهذا الحديث على ما ترجم له وقفة عندي، لأنها واقعة عين لا عموم لها، وقياس الفرح بقدوم غائب ـ مهما كان شأنه ـ على النبي صلى الله عليه وسلم قياس مع الفارق كما هو ظاهر. انتهى.
وقال الشيخ فاضل حمادة الواسطي في رسالته: بذل الأكف في أحكام الدف: الذي يظهر أن حادثة النذر بالضرب بالدف واقعة عين لم تتكرر، فلا عموم فيها، ودليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: إن كنت نذرت فافعلي وإلا فلا. ودليل ذلك ـ أيضا: أن النذر بالمباح - الدف - لا يلزم الوفاء به، بل عند مالك والشافعي لا ينعقد أصلا. انتهى.
وهذا، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث: قد نفخ الشيطان في منخريها. يدل على أن الأصل في مثل هذا هو المنع، تحرزا من عمل الشيطان، وإنما يباح كرخصة في بعض المواطن كالعرس والعيد، لدليل خاص سالم من المعارض، وهنا لا بد من التنبيه على أن حمل هذا الحديث على ما قد يخالف عمومه أو ظاهره، ليس عن رأي مجرد، وإنما الحامل على ذلك هو الجمع بينه وبين غيره من الأدلة على تحريم المعازف، وتحريم غناء المرأة بحضرة الرجال ولو بدون دف، وأما غناء المرأة عند بنات جنسها أو عند زوجها وأبنائها: فجائز إذا خلا من الفحش والمعازف، كما سبق التنبيه عليه في الفتويين: 46943، 17355.
وقد سبق لنا بيان أنواع الغناء وحكم كل نوع في الفتويين: 5282، 987، كما سبق أن تعرضنا لمسألة الإجماع على تحريم المعازف في الفتويين: 130531، 54316، ومسألة ماهية الغناء الذي رخص فيه النبي صلى الله عليه وسلم في الفتوى رقم: 128375، وللفائدة نرجو الاطلاع على الفتوى رقم: 19007، وبذلك يتضح أن موقعنا لم يحرم شيئا قد أباحه الرسول صلى الله عليه وسلم كما زعم السائل!.
والله أعلم.