الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعـد:
فالحديث الأول مختلف فيه من حيث ثبوته، ومن حيث معناه، وفقهه، قال ابن حجر في الفتح: في إسناده مقال, وهو قابل للتأويل. اهـ. وقال في التلخيص الحبير: رواه ابن حزم في المحلى، والخطابي في المعالم، والطبراني في الأوسط، والحاكم في علوم الحديث، من طريق محمد بن سليمان الذهلي، عن عبد الوارث بن سعيد، عن أبي حنيفة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده به, في قصة طويلة مشهورة. ورويناه في الجزء الثالث من مشيخة بغداد للدمياطي، ونقل فيه عن ابن أبي الفوارس أنه قال: غريب. ورواه أصحاب السنن، إلا ابن ماجه، وابن حبان، والحاكم من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، بلفظ: لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع. اهـ.
وهذا اللفظ الثاني هو الصحيح، ورواه النسائي من طريق حسين المعلم، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن سلف وبيع, وشرطين في بيع, وربح ما لم يضمن.
وذكر ابن قدامة في الشرح الكبير النوع الثالث من الشروط الصحيحة، فقال: أن يشترط نفعا معلوما في المبيع, كسكنى الدار شهرا، وحملان البعير إلى موضع معلوم, أو يشترط المشتري نفع البائع في المبيع, كحمل الحطب، أو تكسيره، أو خياطة الثوب، أو تفصيله, ويصح أن يشترط البائع نفع المبيع مدة معلومة، مثل أن يبيع دارا، ويستثني سكناها سنة, أو دابة، ويشترط ظهره إلى مكان معلوم، أو عبدا، ويستثني خدمته مدة معلومة, نص عليه أحمد, وهو قول الأوزاعي، وأبي ثور، وإسحاق، وابن المنذر, وقال الشافعي، وأصحاب الرأي: لا يصح؛ لأنه يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط. اهـ. ثم أجاب عن ذلك، فقال: لم يصح نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط, إنما نهى عن شرطين في بيع، فمفهومه إباحة الشرط الواحد. اهـ.
وقال القرطبي في المفهم: قد اختلفوا في جواز البيع والشرط, فصححهما ابن شبرمة, وأبطلهما أبو حنيفة, وصحح ابن أبي ليلى البيع وأبطل الشرط؛ تمسكا بحديث بريرة المتقدم. وأما مالك -رحمه الله- فيحمل النهي عن بيع وشرط عنده على شرط يناقض مقصود العقد، فجمع بين الأحاديث. اهـ.
وأما الحديث الثاني الذي أورده السائل، فهو في الصحيحين من طرق عن هشام بن عروة به.
ومعناه -كما قال الحافظ ابن عبد البر في الاستذكار-: أظهري لهم حكم الولاء, فإنما الولاء لمن أعتق, أي: عرفيهم بحكم الولاء؛ لأن الاشتراط: الإظهار, ومنها: أشراط الساعة، ظهور علاماتها, قال أوس بن حجر:
فأشرط فيها نفسه وهو معصم ... وألقى بأسباب له وتوكلا.
أي: أظهر نفسه فيما حاول أن يفعل. اهـ.
وذكر أقوالا أخرى في معنى هذه اللفظة, وهذا على التسليم بأنها محفوظة, وإلا فقد طعن في ثبوتها بعض أهل العلم، قال البغوي في شرح السنة: هذه اللفظة تفرد بها هشام, لم يوافقه عليها أحد من الرواة, فإن ابن شهاب روى عن عروة، عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: ابتاعي وأعتقي, فإنما الولاء لمن أعتق. وقالت عمرة، عن عائشة: ابتاعيها وأعتقيها, فإنما الولاء لمن أعتق. وقال القاسم، عن عائشة: اشتريها وأعتقيها, فإنما الولاء لمن أعتق. ولم يذكر أحد منهم: اشترطي لهم الولاء. قال الشافعي: وهذا أولى به؛ لأنه لا يجوز في صفة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي مكانه من الله أن ينكر على الناس شرطا باطلا, ويأمر أهله بإجابتهم إلى باطل, وهو على أهله في الله أشد، وعليهم أغلظ. وقيل: لو صحت هذه اللفظة، كانت متأولة على معنى: لا تبالي، ولا تعبئي بما يقولون، فإن الولاء لا يكون إلا لمعتق, لا أنه أطلق لها الإذن في اشتراط الولاء؛ بدليل ما روى عبد الواحد بن أيمن، عن أبيه، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: اشتريها وأعتقيها، ودعيهم يشترطوا ما شاؤوا. فأشار إلى أن ذلك الكلام لغو من جهتهم، لا يلتفت إليه، إلى أن يبين لهم الحكم بعده. وتأول المزني قوله: اشترطي لهم الولاء، فقال: معناه: اشترطي عليهم الولاء, كما قال الله سبحانه وتعالى: أولئك لهم اللعنة، أي: عليهم اللعنة, وقال جل ذكره: وإن أسأتم فلها {الاسراء:7}، أي: عليها. وتأول بعضهم قوله: اشترطي لهم الولاء، على معنى الوعيد، الذي ظاهره الأمر وباطنه النهي, كقوله عز وجل: اعملوا ما شئتم {فصلت:40}. اهـ.
واما الحديث الثالث: فصوابه حملانه، قال النووي: هو بضم الحاء، أي: الحمل عليه. اهـ.
والحديث ثابت في الصحيحين من طرق عن جابر، بألفاظ, منها: بعنيه، ولك ظهره إلى المدينة. ومنها: فبعته، فاستثنيت حملانه إلى أهلي. ومنها: أفقرني رسول الله صلى الله عليه وسلم ظهره إلى المدينة. ومنها: شرط ظهره إلى المدينة. ومنها: ولك ظهره حتى ترجع. ومنها: أفقرناك ظهره إلى المدينة. ومنها: تبلغ عليه إلى أهلك. ورواه الترمذي عن جابر أنه باع من النبي صلى الله عليه وسلم بعيرا، واشترط ظهره إلى أهله، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وقد روي من غير وجه عن جابر, والعمل على هذا عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وغيرهم, يرون الشرط في البيع جائزا، إذا كان شرطا واحدا, وهو قول أحمد، وإسحاق. وقال بعض أهل العلم: لا يجوز الشرط في البيع، ولا يتم البيع إذا كان فيه شرط. اهـ.
وبالجملة؛ فمسائل الشروط في البيوع، من المسائل التي كثر فيها الخلاف، واشتد قديما وحديثا, ومن أسباب هذا الخلاف، ما يظهر من التعارض بين الآثار الواردة في هذا الباب, وما أورده السائل من الأحاديث مثال على ذلك, فكل حديث من هذه الأحاديث، قد استدل به قوم على مذهبهم، قال السرخسي في المبسوط: حكي عن عبد الوارث بن سعيد قال: حججت، فدخلت بمكة على أبي حنيفة، وسألته عن البيع بالشرط، فقال: باطل، فخرجت من عنده، ودخلت على ابن أبي ليلى، وسألته عن ذلك، فقال: البيع جائز والشرط باطل، فدخلت على ابن شبرمة، وسألته عن ذلك، فقال: البيع جائز والشرط جائز. فقلت: هؤلاء من فقهاء الكوفة، وقد اختلفوا في هذه المسألة كل الاختلاف، فعجزني أن أسأل كل واحد منهم عن حجته, فدخلت على أبي حنيفة، فأعدت السؤال عليه، فأعاد جوابه، فقلت: إن صاحبيك يخالفانك، فقال: لا أدري ما قالا؛ حدثني عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده -رضي الله تعالى عنهم- أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط، فدخلت على ابن أبي ليلى، فقلت له مثل ذلك، فقال: لا أدري ما قال؛ حدثني هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة -رضي الله تعالى عنها- أنها لما أرادت أن تشتري بريرة -رضي الله عنها-، أبى مواليها إلا بشرط أن يكون الولاء لهم, فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال صلوات الله عليه وسلامه: اشتري، واشترطي لهم الولاء، فإن الولاء لمن أعتق، فدخلت على ابن شبرمة، وقلت له مثل ذلك، فقال: لا أدري ما قالا؛ حدثني محارب بن دثار، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله الأنصاري -رضي الله تعالى عنهم- أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى منه ناقة في بعض الغزوات، وشرط له ظهرها إلى المدينة. اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى الكبرى: القاعدة الثالثة في العقود والشروط فيها، فيما يحل منها ويحرم، وما يصح منها ويفسد، ومسائل هذه القاعدة كثيرة جدا, والذي يمكن ضبطه منها قولان:
-أحدهما: أن يقال الأصل في العقود، والشروط فيها، ونحو ذلك: الحظر, إلا ما في ورد الشرع بإجازته. فهذا قول أهل الظاهر، وكثير من أصول أبي حنيفة تبنى على هذا، وكثير من أصول الشافعي، وأصول طائفة من أصحاب مالك، وأحمد ...
-القول الثاني: أن الأصل في العقود والشروط الجواز، والصحة، ولا يحرم ويبطل منها، إلا ما دل على تحريمه، وإبطاله نص، أو قياس، عند من يقول به, وأصول أحمد -رضي الله عنه- المنصوص عنه، أكثرها تجري على هذا القول, ومالك قريب منه, لكن أحمد أكثر تصحيحا للشروط, فليس في الفقهاء الأربعة، أكثر تصحيحا للشروط منه ..اهـ.
وأفاض -رحمه الله- في تفصيل هذه المسألة، ومناقشتها، وإيراد أمثلة لها, ونصر القول الثاني, وقال: إذا كان حسن الوفاء، ورعاية العهد، مأمورا به، علم أن الأصل صحة العقود، والشروط؛ إذ لا معنى للتصحيح، إلا ما ترتب عليه أثره، وحصل به مقصوده، ومقصوده هو الوفاء به, وإذا كان الشرع قد أمر بمقصود العهود، دل على أن الأصل فيها الصحة، والإباحة ...اهـ. وقال في موضع آخر: تصح الشروط التي لم تخالف الشرع في جميع العقود. اهـ.
والله أعلم.