السؤال
مريض إيدز تسبب لنفسه بالمرض ثم تاب توبة حقيقية عندما عرف بمرضه، وبما أن من شروط التوبة أن تتم بمحض إرادة الشخص وليس عند رؤية العذاب، فهذا الإنسان لا يستطيع أن يتوقف عن البكاء ويقول إن الله تعالى لن يقبل توبته، لأنه مثل فرعون لم يتب إلا عندما حاقت به سيئات ما كان يعمل، ويقول إن الخزي في الحياة الدنيا دائما مقرون بالعذاب في الآخرة، ولا يعتقد أن هناك مرضا في الحياة الدنيا من الممكن أن يكون ابتلاء وكفارة لعذاب الآخرة ـ إذا كان الشخص هو الذي تسبب لنفسه بالمرض ـ أي أنه يعتقد أن بعد هذا الخزي في الدنيا عذابا شديدا في الدار الآخرة، وفي نفس الوقت يخاف من الوقوع في كبيرة القنوط من رحمة الله، فما رأيكم؟ وماذا يجب أن يعتقد هذا الشخص؟ وهو الآن يصلي قدر الإمكان من الصلوات التي فاتته، ولكنه يخاف أن الله تعالى سيتوفاه قبل أن يتمها، وفي ذات الوقت يخاف من المصاريف التي تدفعها عائلته لعلاجه، ألن يحاسب على كل هذا؟.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فنسأل الله أن يغفر لهذا الشخص وأن يتجاوز عنه، وليعلم عفا الله عنه أن رحمة الله وسعت كل شيء، وأن الله تعالى يغفر الذنوب جميعا للتائبين، وقد سبقت رحمته غضبه سبحانه وبحمده، فعليه أن لا ييأس من روح الله ولا يقنط من رحمة الله، وليبشر بعفو الله عنه وتجاوزه عن سيئاته إذا صدقت توبته، وقد وعد الله تعالى عباده ووعده الصدق أنه لا يزال يقبل توبة العبد ما لم يغرغر أي ما لم تبلغ روحه الحلقوم، فما يعتقده هذا الشخص من أن باب التوبة أغلق في وجهه وأنه عاين العذاب فلا تنفعه التوبة مثله مثل فرعون -أبعده الله- اعتقاد غير صحيح، فإن العبد ما لم يحضره الموت ويرى ملائكة العذاب إذا تاب قبل الله توبته، قال الله تعالى: إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما*وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما {النساء:18،17}.
فوعد الله تعالى كل من تاب قبل حضور الموت ومعاينة الملك بقبول توبته، قال الشوكاني ـ رحمه الله: قوله: ثم يتوبون من قريب ـ معناه قبل أن يحضرهم الموت كما يدل عليه قوله: حتى إذا حضر أحدهم الموت ـ وبه قال أبو مجلز والضحاك وعكرمة وغيرهم، والمراد قبل المعاينة للملائكة وغلبة المرء على نفسه، ومن في قوله: من قريب ـ للتبعيض: أي يتوبون بعض زمان قريب وهو ما عدا وقت حضور الموت، وقيل معناه قبل المرض وهو ضعيف، بل باطل، لما قدمنا ولما أخرجه أحمد والترمذي وحسنه وابن ماجه والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر. انتهى.
فحصول المرض ولو كان ناشئا عن الذنب ليس مانعا من قبول التوبة بحال كما عرفت، يقول القاسمي عليه الرحمة: الآية الثانية وهي قوله تعالى: وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن - صريحة في أن وقت الاحتضار هو الوقت الذي لا تقبل فيه التوبة، فبقي ما وراءه في حيز القبول، وقد روى الإمام أحمد عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر ـ ورواه ابن ماجة والترمذي وقال: حسن غريب.
وروى أبو داود الطيالسي عن عبد الله بن عمرو قال: من تاب قبل موته بعام تيب عليه، ومن تاب قبل موته بيوم تيب عليه، ومن تاب قبل موته بساعة تيب عليه ـ قال أيوب فقلت له: إنما قال الله عز وجل: إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب ـ فقال: إنما أحدثك ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وروى نحوه الإمام أحمد وسعيد بن منصور وابن مردويه.
وروى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه ـ وروى الحاكم مرفوعا: من تاب إلى الله قبل أن يغرغر قبل الله منه ـ وروى ابن ماجه عن ابن مسعود بإسناد حسن: التائب من الذنب كمن لا ذنب له. انتهى.
وبما تقدم يعلم هذا المبتلى بهذا المرض أن توبته إذا صدقت مقبولة ـ بإذن الله ـ فليبشر بتوبة الله عليه وليحسن ظنه بربه الذي هو أرحم بعبده من الأم بولدها وليجتهد في طاعة ربه والإكثار من النوافل، فإن الحسنات يذهبن السيئات، ثم إن صبره على هذا المصاب بعد توبته يكون في ميزان حسناته ـ إن شاء الله ـ فإنه إن فعل ما يقدر عليه من التوبة بقي هذا المرض وذلك البلاء كفارة له ـ بإذن الله ـ وقد كان نزول أبينا آدم من الجنة ناشئا عن أكله من الشجرة، ومع ذا فإن صبره على ما يصيبه من لأواء الدنيا وشدتها مما يؤجر عليه، ولا يقال إنه تسبب فيه فلا يستحق عليه الثواب، لأنه فعل ما يقدر عليه من التوبة إلى الله تعالى، فليكن هذا الشخص على رجاء مغفرة الله له وليعلم أنه إن أدركه الموت وهو مشتغل بقضاء ما فاته من الصلوات فهو غير مؤاخذ إذا فعل ما يقدر عليه، لأن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها، كما أن ما ينفقه أهله في علاجه ليس هو مؤاخذا به ـ إن شاء الله ـ ولهم الأجر عند الله تعالى على تعاهدهم له ونفقتهم عليه، نسأل الله لنا وله المغفرة وحسن الخاتمة.
والله أعلم.