حكم مصاحبة المتبرجة والسير معها في الطريق

0 1811

السؤال

أسأل عن الحكم الشرعي في السير مع امرأة متبرجة، سواء أكان من امرأة محجبة، أو من محرم لها كأن يكون أخاها، أو ابنها. وقد اطلعت على الفتوى رقم: 94756، وليس فيها الحكم الشرعي الذي أقصده، وجزاكم الله خيرا.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، وبعد:

فإن سير المرأة مع المرأة المتبرجة لا بأس به وكذا المحرم، إذا كانا لا يريان منها ما يحرم عليهما رؤيته منها، ولكن من يسير معها عليه أن ينكر عليها هذه المعصية، فإن التبرج أمام الأجانب من أعظم المحرمات، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم عدة عقوبات للمتبرجات، فذكر أن المتبرجات من أشد الناس عذابا يوم القيامة، وذكر أنهن ملعونات، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا.

وقد روى أحمد في المسند والبخاري في الأدب المفرد والحاكم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ثلاثة لا تسأل عنهم: رجل فارق الجماعة وعصى إمامه فمات عاصيا فلا تسأل عنه، وأمة، أو عبد أبق من سيده، وامرأة غاب زوجها وكفاها مؤنة الدنيا فتبرجت وتمرجت بعده، وثلاثة لا تسأل عنهم: رجل نازع الله رداءه، فإن رداءه الكبرياء وإزاره عزه، ورجل شك في أمر الله، والقنوط من رحمة الله. والحديث صححه الحاكم ووافقه الذهبي.

وفي الحديث عن عبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنهما ـ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: سيكون في آخر أمتي رجال يركبون على سروج كأشباه الرحال ينزلون على أبواب المساجد نساؤهم كاسيات عاريات على رؤوسهن كأسنمة البخت العجاف، العنوهن فإنهن ملعونات. رواه ابن حبان والطبراني والحاكم وقد صحح الحديث ابن حبان والحاكم والألباني في السلسلة الصحيحة.

فإذا حصل المطلوب من قيامهما بواجب النصح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والترهيب منه ولم تترك التبرج، فينظر في مصلحة الابتعاد عن مخالطتها وهجرها، فيتعين ذلك إن خيف التأثر بها، لأن الإنسان يتأثر بواقع من يخالطهم، وأقل أحواله أن يألف حصول المنكر بحضرته ولا ينكره، وفي حديث أبي داود: الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل. وحديث أحمد: لا تصاحب إلا مؤمنا.

وعليه، فيتعين التحفظ من مخالطة المتبرجات وغيرهن من العصاة، لما يخشى أن يؤثر على دينك والتزامك مع الحرص على هداهم وحضهم على التوبة وتعليمهم ما يجهلون وإنكار المنكر الذي يقترفون، والصبر على ما تلقاه في سبيل دعوتهم، واستخدم في ذلك ما أمكنك من الوسائل المساعدة في هدايتهم كالنصح بالحكمة والموعظة الحسنة والجدل بالتي هي أحسن، وإهداء الرسائل والأشرطة النافعة وربطهم بالأصدقاء الصالحين، وعليك بالصبر الطويل وعدم اليأس من قبولهم النصح، وإذا لم يستجيبوا للنصائح فالذي يتعين عدم اليأس من هداهم والمواصلة معهم، والدعاء لهم بالهداية والإنابة إلى الله لعل دعوة صادقة يهديهم الله بها، ففي صحيح مسلم وغيره عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: كنت أدعو أمي إلى الإسلام وهي مشركة فدعوتها يوما فأسمعتني في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أكره، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، قلت: يا رسول الله، إني كنت أدعو أمي إلى الإسلام فتأبى علي، فدعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره، فادع الله أن يهدي أم أبي هريرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم اهد أم أبي هريرة، فخرجت مستبشرا بدعوة نبي الله صلى الله عليه وسلم، فلما جئت فصرت إلى الباب فإذا هو مجاف، فسمعت أمي خشف قدمي، فقالت: مكانك يا أبا هريرة، وسمعت خضخضة الماء، قال: فاغتسلت ولبست درعها وعجلت عن خمارها ففتحت الباب ثم قالت: يا أبا هريرة، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، قال: فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيته، وأنا أبكي من شدة الفرح، قال: قلت: يا رسول الله أبشر قد استجاب الله دعوتك وهدى أم أبي هريرة، فحمد الله وأثنى عليه، وقال خيرا... إلى آخر الحديث.

وإذا كان الإنسان لا يخشى التأثر من مخالطة العصاة فهنا تراعى المصلحة في البعد عنهم وهجرهم، فإن كان المهجور سيؤدي به الهجر للتوبة والرجوع عما هو عليه شرع هجره، وإذا كان المهجور يزداد شرا وفسادا بالهجر، فصلته حينئذ مع دعوته والصبر عليه ومواصلة نصحه مع الدعاء له أولى من هجره والتباعد عنه كما صبر الأنبياء على أممهم ولم يهجروهم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الهجر يختلف باختلاف الهاجرين في قوتهم وضعفهم وقلتهم وكثرتهم، فإن المقصود به زجر المهجور وتأديبه ورجوع العامة عن مثل حاله، فإن كانت المصلحة في ذلك راجحة بحيث يفضي هجره إلى ضعف الشر وخفيته كان مشروعا، وإن كان لا المهجور ولا غيره يرتدع بذلك، بل يزيد الشر، والهاجر ضعيف بحيث يكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته لم يشرع الهجر، بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهجر، والهجر لبعض الناس أنفع من التأليف، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يتألف قوما ويهجر آخرين، كما أن الثلاثة الذين خلفوا كانوا خيرا من أكثر المؤلفة قلوبهم لما كان أولئك كانوا سادة مطاعين في عشائرهم فكانت المصلحة الدينية في تأليف قلوبهم، وهؤلاء كانوا مؤمنين، والمؤمنون سواهم كثير، فكان في هجرهم عز الدين وتطهيرهم من ذنوبهم. اهـ.

وإذا كان عدم الهجر أفضل فلا يضر المسلم مرافقة العصاة ومجالستهم إذا نهاهم عن المنكر وناصحهم حتى ولو لم يقبلوا نصحه، فإن الله تعالى لما قال: وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين {الأنعام: 68}. قال بعدها: وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء ولكن ذكرى لعلهم يتقون {الأنعام 69}.
قال السعدي: هذا النهي والتحريم لمن جلس معهم ولم يستعمل تقوى الله بأن كان يشاركهم في القول والعمل المحرم، أو يسكت عنهم وعن الإنكار، فإن استعمل تقوى الله تعالى بأن كان يأمرهم بالخير وينهاهم عن الشر والكلام الذي يصدر منهم، فيترتب على ذلك زوال الشر، أو تخفيفه، فهذا ليس عليه حرج ولا إثم، ولهذا قال: وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء ولكن ذكرى لعلهم يتقون ـ أي: ولكن ليذكرهم، ويعظهم لعلهم يتقون الله تعالى. اهـ.

هذا، ويتعين التنبه إلى أنه لا يجوز للولد هجر أمه مهما بدر منها من الأخطاء والذنوب، فالله تعالى يقول في شأن الوالدين الكافرين اللذين يدعوان إلى الكفر: وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلي ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون {لقمان:15}. ويقول تعالى في الوالدين عموما: وبالوالدين إحسانا {البقرة:83}.
فإذا كان الولد مأمورا بمصاحبة والديه بالمعروف وهما مشركان فهو مأمور بها مهما تلبسا به من المعاصي والتي هي دون الشرك بالأولى والأحرى، وهذا لا ينافي النصح لها، وتخويفها عقاب الله تعالى. 

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة