السؤال
السادة الأفاضل
سؤالى عن الولي: أريد أن أعرف و أطمئن علام استند مذهب الإمام أبي حنيفه و هو المذهب المعمول به لدينا فى مصر، و يقوله المأذون أثناء عقد النكاح حيث أجاز أبو حنيفه للمرأة أن تزوج نفسها بدون ولي، فى حين أنني قرأت حديثا ما معناه عن الرسول (ص) يقول فيه (أيما امرأة أنكحت نفسها بدون إذن وليها فنكاحها باطل)
و آخر يقول فيه: لا نكاح بدون ولي.
فهل هذان الحديثان صحيحان و إذا كان ذلك فكيف يجوز لها عند أبي حنيفة أن تزوج نفسها؟
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالجمهور على اشتراط الولي لصحة النكاح خلافا للإمام أبي حنيفة (رحمه الله) الذي يرى صحة تزويج المرأة الرشيدة نفسها، ومذهب الجمهور هو الراجح ، وانظر الفتوى رقم : 111441.
ومنشأ الخلاف في ذلك ، -كما هو الغالب في مسائل الخلاف- الاختلاف في ثبوت الأدلة ودلالتها والترجيح بين الأدلة المتعارضة. قال ابن رشد: وسبب اختلافهم أنه لم تأت آية ولا سنة هي ظاهرة في اشتراط الولاية في النكاح، فضلا عن أن يكون في ذلك نص، بل الآيات والسنن التي جرت العادة بالاحتجاج بها عند من يشترطها هي كلها محتملة، وكذلك الآيات والسنن التي يحتج بها من يشترط إسقاطها هي أيضا محتملة في ذلك، والأحاديث مع كونها محتملة في ألفاظها مختلف في صحتها إلا حديث ابن عباس، وإن كان المسقط لها ليس عليه دليل؛ لأن الأصل براءة الذمة. بداية المجتهد ونهاية المقتصد.
فالأحاديث التي وردت باشتراط الولي للنكاح قد اختلف أهل العلم في صحتها ، ومنها الحديث المذكور في السؤال ، فقد حسنه الترمذي وصححه ابن حبان و ابن الجارود و الحاكم و الذهبي و ابن عدى و ابن الجوزي ، وضعفه غيرهم.
وإليك بيان ما احتج به الأحناف لتقرير مذهبهم.
فقد جاء في الاختيار لتعليل المختار: وجه قول أبي حنيفة قوله تعالى: {حتى تنكح زوجا غيره} [البقرة: 230] ، وقال تعالى: {فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف} [البقرة: 234] ، وفي آية أخرى {من معروف} [البقرة: 240] أضاف النكاح والفعل إليهن، وذلك يدل على صحة عبارتهن ونفاذها؛ لأنه أضافه إليهن على سبيل الاستقلال؛ إذ لم يذكر معها غيرها. وهي إذا زوجت نفسها من كفء بمهر المثل فقد فعلت في نفسها بالمعروف، فلا جناح على الأولياء في ذلك. وروى ابن عباس أن فتاة جاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا نبي الله، إن أبي زوجني من ابن أخ له؛ ليرفع خسيسته، وأنا له كارهة! فقال لها: أجيزي ما صنع أبوك، فقالت: لا رغبة لي فيما صنع أبي! قال: فاذهبي، فانكحي من شئت! فقالت: لا رغبة لي عما صنع أبي يا رسول الله، ولكني أردت أن أعلم النساء أن ليس للآباء من أمور بناتهم شيء . والاستدلال به من وجوه: أحدها: قوله - عليه الصلاة والسلام -: فانكحي من شئت . الثاني: قولها ذلك، ولم ينكر عليها، فعلم أنه ثابت؛ إذ لو لم يكن ثابتا لما سكت عنه. الثالث: قوله: أجيزي ما صنع أبوك - يدل على أن عقده غير نافذ عليها، وفيه دليل لأصحابنا على أن العقد يتوقف أيضا. وفي البخاري: أن خنساء بنت خذام أنكحها أبوها، وهي كارهة، فرده النبي - عليه الصلاة والسلام - . وروي أن امرأة زوجت بنتها برضاها، فجاء الأولياء وخاصموها إلى علي - رضي الله عنه -، فأجاز النكاح. وهذا دليل الانعقاد بعبارة النساء، وأنه أجاز النكاح بغير ولي؛ لأنهم كانوا غائبين ; لأنها تصرفت في خالص حقها، ولا ضرر فيه لغيرها، فينفذ كتصرفها في مالها. والولاية في النكاح أسرع ثبوتا منها في المال، ولهذا يثبت لغير الأب والجد، ولا يثبت لهم في المال. ولأن النكاح خالص حقها حتى يجبر الولي عليه عند طلبها وبذله لها، وهي أهل لاستيفاء حقوقها، إلا أن الكفاءة حق الأولياء، فلا تقدر على إسقاط حقهم. وأما ما ذكر من الأحاديث فمعارضة بما روينا؛ فإما أن يرجع إلى القياس - وهو لنا - على المال والرجل، أو يوفق بين الحديثين، فيحمل ما رويناه على الحرة العاقلة البالغة، وما رويتموه على الأمة توفيقا. كيف وقد ورد في بعض الروايات أيما أمة نكحت نفسها ؟ فيحمل المطلق على المقيد، أو يرجح، والترجيح معنا؛ لأن ما ذكرناه سالم عن الطعن، وما رواه مطعون فيه؛ فقد حكي عن أبي العباس المروزي قال: سمعت يحيى بن معين يقول: ثلاثة أحاديث لم تثبت عن النبي - عليه الصلاة والسلام - كل مسكر حرام ، ومن مس ذكره فليتوضأ ، ولا نكاح إلا بولي، وشاهدي عدل . ووافقه على ذلك أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه. على أنا نقول: المرأة ولية نفسها، فلا يكون نكاحا بلا ولي، فلم قلتم: إنها ليست وليا؟ ولو قلتم ذلك استغنيتم عن الحديث. وكذا الحديث الآخر فإنه من رواية سليمان بن يسار عن الزهري، وهو ضعيف ضعفه البخاري، وأسقط روايته. وروي أن مالكا وابن جريج سألا الزهري عن هذا الحديث فلم يعرفه، والراوي إذا أنكر الخبر دل على بطلانه كالأصول مع الفروع. ولأن من مذهب عائشة - رضي الله عنها - جواز النكاح بعبارة النساء؛ فإنها زوجت بنت أخيها عبد الرحمن حين غاب بالشام. دل ذلك على عدم صحة الحديث، وروايتها له، أو على نسخه، أو على رجحان ما ذكرنا.
والله أعلم.