الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن الأصل أن فضح المسلم الذي وقع في معصية والتشهير به محرم، كما بيناه في الفتوى رقم: 146575.
لكن الشرع أذن لمن اعتدي عليه أن يرد ذلك بالمثل، دون زيادة؛ لقوله تعالى: فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم {البقرة:194}.
قال الإمام ابن تيمية: فإن كان الشخصان قد اختصما نظر أمرهما، فإن تبين ظلم أحدهما، كان المظلوم بالخيار بين الاستيفاء والعفو، والعفو أفضل. فإن كان ظلمه بضرب أو لطم، فله أن يضربه أو يلطمه كما فعل به، عند جماهير السلف وكثير من الأئمة وبذلك جاءت السنة. وقد قيل: إنه يؤدب ولا قصاص في ذلك. وإن كان قد سبه فله أن يسبه مثل ما سبه، إذا لم يكن فيه عدوان على حق محض لله أو على غير الظالم. فإذا لعنه أو سماه باسم كلب ونحوه، فله أن يقول له مثل ذلك، فإذا لعن أباه لم يكن له أن يلعن أباه؛ لأنه لم يظلمه. وإن افترى عليه كذبا لم يكن له أن يفتري عليه كذبا؛ لأن الكذب حرام لحق الله. كما قال كثير من العلماء في القصاص في البدن: أنه إذا جرحه أو خنقه أو ضربه ونحو ذلك يفعل به كما فعل. فهذا أصح قولي العلماء إلا أن يكون الفعل محرما لحق الله كفعل الفاحشة، أو تجريعه الخمر، فقد نهى عن مثل هذا أكثرهم، وإن كان بعضهم سوغه بنظير ذلك. اهـ.
وانظري الفتوى رقم: 57954
والأصل أن الإثم على من بدأت بالتشهير، ما لم يحصل منك اعتداء في مقابلة فعلها. جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: المستبان ما قالا، فعلى البادئ ما لم يعتد المظلوم. أخرجه مسلم.
قال الإمام النووي: معناه أن إثم السباب الواقع من اثنين مختص بالبادئ منهما كله، إلا أن يتجاوز الثاني قدر الانتصار فيقول للبادئ أكثر مما قال له، وفي هذا جواز الانتصار، ولا خلاف في جوازه، وقد تظاهرت عليه دلائل الكتاب والسنة. قال الله تعالى: ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل {الشورى:41}، وقال تعالى: والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون {الشورى:39}، ومع هذا فالصبر والعفو أفضل. قال الله تعالى: ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور {الشورى:43}، وللحديث المذكور بعد هذا: مازاد الله عبدا بعفو إلا عزا. واعلم أن سباب المسلم بغير حق حرام كما قال صلى الله عليه وسلم: سباب المسلم فسوق. ولا يجوز للمسبوب أن ينتصر إلا بمثل ما سبه، ما لم يكن كذبا أو قذفا، أو سبا لأسلافه، فمن صور المباح أن ينتصر بيا ظالم، يا أحمق، أو جافي أو نحو ذلك؛ لأنه لا يكاد أحد ينفك من هذه الأوصاف. قالوا وإذا انتصر المسبوب استوفى ظلامته، وبرئ الأول من حقه، وبقي عليه إثم الابتداء أو الإثم المستحق لله تعالى، وقيل يرتفع عنه جميع الإثم بالانتصار منه، ويكون معنى على البادئ أي عليه اللوم والذم لا الإثم. اهـ.
وعليك بالاستغفار والتوبة على كل حال، فلعلك جاوزت القدر المأذون فيه في مجازاة تلك الفتاة، وقد أمر الله بالتوبة عباده المؤمنين جميعهم، فقال سبحانه: وتوبوا إلى الله جميعا أيه المؤمنون لعلكم تفلحون {النور:31}، و لمعرفة شروط التوبة وأحكامها راجعي الفتويين: 5450 ، 111852.
وإن حصل منك تجاوز في حق تلك الفتاة، فالأولى ألا تخبريها بذلك مادام الحال على ما وصفت، وعليك أن تكثري من الدعاء لها، وأثني عليها وامدحيها في الأماكن التي ذممتها فيها، وانظري بيان ذلك في الفتويين: 18180 ، 66515.
ونوصيك بالإكثار من الأعمال الصالحة، فإنها مذهبة للذنوب؛ قال تعالى: إن الحسنات يذهبن السيئات {هود:114}.
وينبغي لك أن تسامحي من أساء إليك، فالعفو عن الناس سبب لمغفرة الله للعبد، كما قال تعالى: وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم {النور:22}. وفي الحديث: ارحموا ترحموا، واغفروا يغفر الله لكم" أخرجه أحمد، وصححه الألباني.
والذنوب من الأسباب التي تعسرعلى العبد أموره وتضيق عليه في رزقه.
قال ابن القيم في تعداد آثار المعاصي: منها :حرمان الرزق، وفي المسند: إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه وقد تقدم، وكما أن تقوى الله مجلبة للرزق فترك التقوى مجلبة للفقر، فما استجلب رزق الله بمثل ترك المعاصي.
ومنها : تعسير أموره عليه، فلا يتوجه لأمر إلا يجده مغلقا دونه أو متعسرا عليه، وهذا كما أن من اتقى الله جعل له من أمره يسرا، فمن عطل التقوى جعل له من أمره عسرا، ويا لله العجب! كيف يجد العبد أبواب الخير والمصالح مسدودة عنه وطرقها معسرة عليه، وهو لا يعلم من أين أتي؟ أهـ.
فقد يكون ذنبك هذا سببا في تعسر رزقك .
وهناك أمارات تدل العبد على قبول توبته.
قال ابن القيم: فالتوبة المقبولة الصحيحة لها علامات، منها: أن يكون بعد التوبة خيرا مما كان قبلها.
ومنها: أنه لا يزال الخوف مصاحبا له لا يأمن مكر الله طرفة عين، فخوفه مستمر إلى أن يسمع قول الرسل لقبض روحه:{أن لا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون} [فصلت: 30] فهناك يزول الخوف.
ومنها: انخلاع قلبه، وتقطعه ندما وخوفا، وهذا على قدر عظم الجناية وصغرها، وهذا تأويل ابن عيينة لقوله تعالى: {لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم} [التوبة: 110] قال: تقطعها بالتوبة، ولا ريب أن الخوف الشديد من العقوبة العظيمة يوجب انصداع القلب وانخلاعه، وهذا هو تقطعه، وهذا حقيقة التوبة، لأنه يتقطع قلبه حسرة على ما فرط منه، وخوفا من سوء عاقبته، فمن لم يتقطع قلبه في الدنيا على ما فرط حسرة وخوفا، تقطع في الآخرة إذا حقت الحقائق، وعاين ثواب المطيعين، وعقاب العاصين، فلا بد من تقطع القلب إما في الدنيا وإما في الآخرة.
ومن موجبات التوبة الصحيحة أيضا: كسرة خاصة تحصل للقلب لا يشبهها شيء، ولا تكون لغير المذنب، لا تحصل بجوع، ولا رياضة، ولا حب مجرد، وإنما هي أمر وراء هذا كله، تكسر القلب بين يدي الرب كسرة تامة، قد أحاطت به من جميع جهاته، وألقته بين يدي ربه طريحا ذليلا خاشعا، كحال عبد جان آبق من سيده، فأخذ فأحضر بين يديه، ولم يجد من ينجيه من سطوته، ولم يجد منه بدا ولا عنه غناء، ولا منه مهربا، وعلم أن حياته وسعادته وفلاحه ونجاحه في رضاه عنه، وقد علم إحاطة سيده بتفاصيل جناياته، هذا مع حبه لسيده، وشدة حاجته إليه، وعلمه بضعفه وعجزه وقوة سيده، وذله وعز سيده.
فيجتمع من هذه الأحوال كسرة وذلة وخضوع، ما أنفعها للعبد وما أجدى عائدتها عليه! وما أعظم جبره بها، وما أقربه بها من سيده! فليس شيء أحب إلى سيده من هذه الكسرة، والخضوع والتذلل، والإخبات، والانطراح بين يديه، والاستسلام له، فلله ما أحلى قوله في هذه الحال: أسألك بعزك وذلي إلا رحمتني، أسألك بقوتك وضعفي، وبغناك عني وفقري إليك، هذه ناصيتي الكاذبة الخاطئة بين يديك، عبيدك سواي كثير، وليس لي سيد سواك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال الخاضع الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضرير، سؤال من خضعت لك رقبته، ورغم لك أنفه، وفاضت لك عيناه، وذل لك قلبه. يا من ألوذ به فيما أؤمله ... ومن أعوذ به مما أحاذره لا يجبر الناس عظما أنت كاسره ... ولا يهيضون عظما أنت جابره فهذا وأمثاله من آثار التوبة المقبولة، فمن لم يجد ذلك في قلبه فليتهم توبته وليرجع إلى تصحيحها، فما أصعب التوبة الصحيحة بالحقيقة، وما أسهلها باللسان والدعوى! وما عالج الصادق بشيء أشق عليه من التوبة الخالصة الصادقة، ولا حول ولا قوة إلا بالله أهـ.
والله أعلم.