الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن الواجب على المسلم محبة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وموالاتهم، وإحسان الظن بهم، فإن الأصل حسن الظن بكل مسلم، فكيف بالصحابة وهم خير هذه الأمة؟ وعلى المسلم ألا يرعي سمعه للشبهات التي يراد بها الافتراء على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
وخالد بن الوليد هو سيف الله، كما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم، ففي صحيح البخاري عن أنس - رضي الله عنه -: أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى زيدا وجعفرا وابن رواحة للناس قبل أن يأتيهم خبرهم، فقال: أخذ الراية زيد فأصيب, ثم أخذها جعفر فأصيب, ثم أخذ ابن رواحة فأصيب, وعيناه تذرفان؛ حتى أخذها سيف من سيوف الله - وهو خالد بن الوليد - حتى فتح الله عليهم.
أما قتله - رضي الله عنه - لبني جذيمة فهو قد اجتهد في ذلك، والمجتهد لا إثم عليه في خطئه، فعن عمرو بن العاص، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر. متفق عليه، وجاء في الحديث الآخر: إن الله وضع عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه. أخرجه ابن ماجه, وصححه الألباني.
قال ابن بطال: لم يختلف العلماء أن القاضي إذا قضى بجور أو بخلاف أهل العلم فهو مردود، فإن كان على وجه الاجتهاد والتأويل - كما صنع خالد - فإن الإثم ساقط عنه. اهـ. وراجع الفتوى: 104512.
أما سبب قتل خالد بن الوليد - رضي الله عنه - لمالك بن نويرة فلكونه يراه مرتدا، وإن فرض أنه لم يكن مرتدا في نفس الأمر فغاية ما هنالك أن يكون خالد اجتهد وتأول في قتله، والمجتهد لا إثم عليه - كما تقدم -، أما أن يكون خالد - رضي الله عنه - قتله من أجل أن يتزوج بامرأته فهذا من البهتان المبين، قال ابن تيمية: ثم يقال: غاية ما يقال: في قصة مالك بن نويرة: إنه كان معصوم الدم، وإن خالدا قتله بتأويل، وهذا لا يبيح قتل خالد ... ومعلوم أن خالدا قتل مالك بن نويرة; لأنه رآه مرتدا ... وبالجملة: فنحن لم نعلم أن القضية وقعت على وجه لا يسوغ فيها الاجتهاد, والطعن بمثل ذلك من قول من يتكلم بلا علم، وهذا مما حرمه الله ورسوله. اهـ
وقال ابن حجر الهيتمي: على أن الحق عدم قتل خالد؛ لأن مالكا ارتد ورد على قومه صدقاتهم لما بلغه وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم, كما فعل أهل الردة, وقد اعترف أخو مالك لعمر بذلك, وتزوجه امرأته لعله لانقضاء عدتها بالوضع عقب موته, أو يحتمل أنها كانت محبوسة عنده بعد انقضاء عدتها عن الأزواج على عادة الجاهلية, وعلى كل حال فخالد أتقى لله من أن يظن به مثل هذه الرذالة التي لا تصدر من أدنى المؤمنين, فكيف بسيف الله المسلول على أعدائه؟ فالحق ما فعله أبو بكر, لا ما اعترض به عليه عمر - رضي الله تعالى عنهما - ويؤيد ذلك أن عمر لما أفضت إليه الخلافة لم يتعرض لخالد, ولم يعاتبه, ولا تنقصه بكلمة في هذا الأمر قط, فعلم أنه ظهر له حقية ما فعله أبو بكر, فرجع عن اعتراضه, وإلا لم يتركه عند استقلاله بالأمر؛ لأنه كان أتقى لله من أن يداهن في دين الله أحدا. اهـ
قال الدكتور علي الصلابي: اختلفت الآراء في مقتل مالك بن نويرة اختلافا كثيرا: أقتل مظلوما أم مستحقا؛ أي أكافرا قتل أم مسلما؟
واخترت من بين من بحث هذا الموضوع ما ذهب إليه الدكتور علي العتوم؛ لأنه حقق المسألة تحقيقا علميا متميزا، واهتم بأحداث الردة اهتماما لم أجده -على حسب اطلاعي- عند أحد من الباحثين المعاصرين، وخرج بنتيجة أوافقه عليها: أن الذي أردى مالكا كبره وتردده؛ فقد بقي للجاهلية في نفسه نصيب, وإلا لما ماطل هذه المماطلة في التبعية للقائم بأمر الإسلام بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفي تأدية حق بيت مال المسلمين المتمثل بالزكاة, وفي تصوري أن الرجل كان يحرص على زعامته ويناكف - في الوقت نفسه - بعض أقربائه من زعماء بني تميم الذين وضعوا عصا الطاعة للدولة الإسلامية، وأدوا ما عليهم لها من واجبات، وقد كانت أفعاله وأقواله على السواء تؤيد هذا التصور، فارتداده ووقوفه بجانب سجاح وتفريقه إبل الصدقة على قومه، بل ومنعهم من أدائها لأبي بكر وعدم إصاخته لنصائح أقربائه المسلمين في تمرده، كل ذلك يدينه ويجعل منه رجلا أقرب إلى الكفر منه إلى الإسلام, ولو لم يكن مما يحتج به على مالك إلا منعه للزكاة لكفى ذلك مسوغا لإدانته، وهذا المنع مؤكد عند الأقدمين؛ فقد جاء في طبقات فحول الشعراء لابن سلام قوله: والمجمع عليه: أن خالدا حاوره وراده، وأن مالكا سمح بالصلاة والتوى بالزكاة ... فهناك من اتهم خالدا بأنه تزوج أم تميم فور وقوعها في يده لعدم صبره على جمالها, ولهواه السابق فيها، وبذلك يكون زواجه منها - حاشا لله - سفاحا، فهذا القول مستحدث لا يعتد به؛ إذ خلت المصادر القديمة من الإشارة إليه، بل هي على خلافه في نصوصها الصريحة، يذكر الماوردي أن الذي جعل خالد يقوم على قتل مالك هو منعه للصدقة التي استحل بها دمه، وبذلك فسد عقد المناكحة بينه وبين أم تميم، وحكم نساء المرتدين إذا لحقن بدار الحرب أن يسبين ولا يقتلن، كما يشير إلى ذلك الإمام السرخسي, فلما صارت أم تميم في السبي اصطفاها خالد لنفسه، فلما حلت بنى بها .اهـ
وراجع للفائدة الفتاوى: 69729 - 102762 - 105602.
والله أعلم.