السؤال
جاء عن إبراهيم عليه السلام أنه حطم الأصنام، وهذا إنكار باليد. فهل للمنكر أن يجتهد وينكر بيده وإن ظن أنهم سيقتلونه، كما فعل إبراهيم عليه السلام، وقد هدده والده من قبل بالقتل فقال: (لأرجمنك واهجرني مليا )؟
جاء عن إبراهيم عليه السلام أنه حطم الأصنام، وهذا إنكار باليد. فهل للمنكر أن يجتهد وينكر بيده وإن ظن أنهم سيقتلونه، كما فعل إبراهيم عليه السلام، وقد هدده والده من قبل بالقتل فقال: (لأرجمنك واهجرني مليا )؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن إنكار المنكر باليد من شروط وجوبه على المكلف القدرة على ذلك، وإذا خاف المنكر القتل بإنكاره باليد، كان ذلك عذرا له في عدم الإنكار.
قال ابن حزم- رحمه الله- في المحلى: والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فرض على كل مسلم، إن قدر بيده، فبيده. وإن لم يقدر بيده، فبلسانه. وإن لم يقدر بلسانه، فبقلبه ولا بد، وذلك أضعف الإيمان، فإن لم يفعل، فلا إيمان له. ومن خاف القتل أو الضرب، أو ذهاب المال، فهو عذر يبيح له أن يغير بقلبه فقط، ويسكت عن الأمر بالمعروف وعن النهي عن المنكر فقط. انتهى.
ومع قولنا بعدم وجوب إنكار المنكر باليد إذا خاف على نفسه القتل أو الضرب، فإنه يجوز له أن يقدم عليه إذا رجا زواله.
قال ابن العربي- رحمه الله- في أحكام القرآن: وأما القدرة فهي أصل, وتكون منه في النفس، وتكون في البدن إن احتاج إلى النهي عنه بيده, فإن خاف على نفسه من تغييره الضرب أو القتل, فإن رجا زواله جاز عند أكثر العلماء الاقتحام عند هذا الغرر , وإن لم يرج زواله فأي فائدة فيه ؟. انتهى.
وتقدير إنكار المنكر في هذه الحال محل اجتهاد، قد يستحب في بعض المواضع، وقد يحرم في بعضها، مثل أن يتعدى الضرر غير المنكر.
قال الغزالي- رحمه الله- في إحياء علوم الدين: وإذا جاز أن يقاتل الكفار حتى يقتل، جاز أيضا له ذلك في الحسبة. ولكن لو علم أنه لا نكاية لهجومه على الكفار كالأعمى يطرح نفسه على الصف، أو العاجز، فذلك حرام، وداخل تحت عموم آية التهلكة. وإنما جاز له الإقدام إذا علم أنه يقاتل إلى أن يقتل، أو علم أنه يكسر قلوب الكفار بمشاهدتهم جراءته، واعتقادهم في سائر المسلمين قلة المبالاة، وحبهم للشهادة في سبيل الله، فتنكسر بذلك شوكتهم. فكذلك يجوز للمحتسب بل يستحب له أن يعرض نفسه للضرب وللقتل، إذا كان لحسبته تأثير في رفع المنكر، أو في كسر جاه الفاسق، أو في تقوية قلوب أهل الدين. وأما إن رأى فاسقا متغلبا وعنده سيف، وبيده قدح، وعلم أنه لو أنكر عليه لشرب القدح، وضرب رقبته. فهذا مما لا أرى للحسبة فيه وجها، وهو عين الهلاك. فإن المطلوب أن يؤثر في الدين أثرا، ويفديه بنفسه. فأما تعريض النفس للهلاك من غير أثر، فلا وجه له، بل ينبغي أن يكون حراما. وإنما يستحب له الإنكار إذا قدر على إبطال المنكر، أو ظهر لفعله فائدة. وذلك بشرط أن يقتصر المكروه عليه، فإن علم أنه يضرب معه غيره من أصحابه، أو أقاربه، أو رفقائه فلا تجوز له الحسبة بل تحرم؛ لأنه عجز عن دفع المنكر إلا بأن يفضى ذلك إلى منكر آخر وليس ذلك من القدرة في شيء. انتهى.
ولما كان هذا الباب موضع اجتهاد، فلا يجوز أن يقتحمه كل أحد إلا من كان على بصيرة بتقدير المصالح والمفاسد، وذلك لا يتأتى لعوام الناس، خصوصا في الأمور العامة الدقيقة، فإنه خاص بالعلماء.
قال الغزالي أيضا: العامي ينبغي له أن لا يحتسب إلا في الجليات المعلومة كشرب الخمر، والزنا، وترك الصلاة. فأما ما يعلم كونه معصية بالإضافة إلى ما يطيف به من الأفعال، ويفتقر فيه إلى اجتهاد. فالعامي إن خاض فيه كان ما يفسده أكثر مما يصلحه. انتهى.
والله أعلم.