الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن السفر إلى بلاد الكفار منطو على مخاطر جمة على دين المسلم وأخلاقه؛ لما في تلك البلاد من مظاهر الكفر والانحراف عن دين الله، ولتيسر سبل الشر والغواية فيها، قال ابن تيمية: فالمشابهة والمشاكلة في الأمور الظاهرة، توجب مشابهة ومشاكلة في الأمور الباطنة على وجه المسارقة والتدريج الخفي, وقد رأينا اليهود والنصارى الذين عاشروا المسلمين، هم أقل كفرا من غيرهم، كما رأينا المسلمين الذين أكثروا من معاشرة اليهود والنصارى، هم أقل إيمانا من غيرهم ممن جرد الإسلام. اهـ .
ولا يجوز السفر إلى بلاد غير المسلمين إلا إن كان المسلم قادرا على إظهار دينه فيها، ويأمن على نفسه من الافتتان بما عليه الكفار من انحراف وضلال, سئل الشيخ ابن عثيمين عن حكم السفر إلى بلاد الكفار؟ فقال: السفر إلى بلاد الكفار لا يجوز إلا بثلاثة شروط:
الشرط الأول: أن يكون عند الإنسان علم يدفع به الشبهات.
الشرط الثاني: أن يكون عنده دين يمنعه من الشهوات.
الشرط الثالث: أن يكون محتاجا إلى ذلك. اهـ من مجموع فتاويه.
فإن كنت تستطيع إظهار شعائر الدين في تلك البلاد، وتأمن على نفسك من الافتتان، وكنت محتاجا لتلك الدورات فلا حرج عليك في السفر إليها، وإلا فلا.
جاء في فتاوى اللجنة الدائمة: فلا يجوز لك السفر إلى الدول الكافرة للدراسة بها، إلا فيما لا يتيسر لك دراسته على المسلمين في البلاد الإسلامية من العلوم الدنيوية، كالطب, والهندسة, ونحوهما، ولم يتيسر استقدام من يضطر إليه من المتخصصين الأمناء في العلوم الكونية إلى الدولة الإسلامية؛ للقيام بتدريسها للطلاب المسلمين، وكانت أمتك مضطرة إلى هذه العلوم؛ لتكتفي بأبنائها بعد التخرج في القيام بما تحتاج إليه عن استقدام كفار يقومون به، وكنت في نفسك محصنا في دينك بالثقافة الإسلامية، لا يخشى عليك من الفتن أيام دراستك في بلاد الكفار، وإقامتك مدة الدراسة بين أظهرهم، فيجوز لك حينئذ أن تسافر للدراسة في بلاد الكفار . اهـ.
هذا، وقد ذهب جمهور العلماء إلى إباحة السفر إلى بلاد الكفار بشرط القدرة على إظهار شعائر الدين في تلك البلاد، والأمن من الفتنة، ولم يشترطوا أن يكون السفر للحاجة، كما بيناه في الفتوى رقم: 118279.
لكن على كل حال فما تتحصل عليه في سفرك من شهادات أو نحوها، وكذلك ما يترتب عليها من ترقيات أو غيرها، هي مباحة لك؛ لأن الجهة بين السفر وبين تلك الشهادات والأعمال منفكة.
وأما مجرد التعامل مع الكفار بيعا وشراء فليس كفرا، وليس هو محرما أصلا، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعامل الكفار، كما في الصحيحين عن عبد الله - رضي الله عنه - قال: أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر اليهود: أن يعملوها ويزرعوها، ولهم شطر ما يخرج منها. وفي الصحيحين عن عائشة، قالت: اشترى رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهودي طعاما بنسيئة، فأعطاه درعا له رهنا.
جاء في فتاوى اللجنة الدائمة: ما حكم مؤاكلة ومشاربة ومجالسة ومعاملة الكافر، وهل تخرج من الملة؟
ج: مجرد مؤاكلة الكافر ومجالسته ومعاملته بيعا عليه أو شراء منه، ونحو ذلك من تبادل المنافع الدنيوية التي لا تعود على المسلمين بمضرة في دينهم أو دنياهم، لا تخرج من الملة الإسلامية، بل بر الكفار والإحسان إليهم لا يعتبر معصية ما داموا لم يقاتلونا في الدين، ولم يكونوا حربا علينا، قال الله تعالى: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين * إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون} وقد بايع النبي صلى الله عليه وسلم اليهود, وتبادل معهم المنافع, وعاملهم بعد غزوة خيبر أن يزرعوا أرضها بشطر ما يخرج منها، وأكل من ذراع شاة قدمتها له ولأصحابه يهودية، ووضعت له سما في ذراعها لتضر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وقبل الهدية من عظيم الروم بعد غزوة تبوك وكافأه عليها، وكان عنده خادم كافر وعرض عليه الإسلام فأسلم، وكان يختلط بالكفار ليبلغهم دعوة الله ويناقشهم ويجيب عن أسئلتهم، إلى غير ذلك من المعاملات والمخالطات التي لا تمس كيان الإسلام، ولا تضر بالمسلمين في دنياهم، وإنما تبلغ بها الدعوة الإسلامية، وتقوم بها الحجة، أو ينتفع بها المسلمون في دنياهم ويعود عليهم منها مصلحة، وقد توفي عليه الصلاة والسلام ودرعه مرهونة عند يهودي في طعام اشتراه لأهله.
أما مجالستهم ومؤاكلتهم ومعاملتهم على وجه المودة والإخاء والمحبة والولاء الروحي - فهذا لا يجوز، بل قد يكون كفرا يخرج به من دين الإسلام من رضي عنهم وعن دينهم, وأحبهم وأخلص لهم, أو ناصرهم على المسلمين, أو نحو ذلك - والعياذ بالله - قال تعالى: {ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون} .اهـ.
والله أعلم.