السؤال
ما حكم معالجة الطبيب لأفراد المجتمعات الكافرة غير المهادنة – أي: التي جيوشهم تحارب المسلمين - في حالتين:
الحالة الأولى: بحجة التدريب في ذلك البلد، وذلك على وجهين أيضا:
أ- في حال توفر الشهادة المطلوبة في بلده الأم، ومن ثم توفر برنامج تدريب طبي في ذلك التخصص، لكن غالبا ليست بقوة شهادة البلد الذي يغلب على دياناته الكفر.
ب- في حال عدم توفر الشهادة، ومن ثم عدم توفر برنامج تدريب طبي في ذلك التخصص.
الحالة الثانية: أن تكون إقامته وعلاجه لمرضاهم على وجه الاستيطان الكلي في ذلك البلد، وليس فقط لفترة التدريب، مع العلم أن فترة التدريب الطبي في أغلب التخصصات هي من ثلاث سنوات إلى ما يصل في بعض التخصصات لسبع سنوات، وأتمنى الاستدلال بنصوص الكتاب والسنة متى أمكن ذلك، ومن ثم شرحها بأقوال العلماء إن دعت الحاجة - جزاكم الله خيرا -.
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فبداية نشير إلى حكم الإقامة هناك أصلا، فإنها لا تجوز مع العجز عن إظهار الدين، ولا تحرم مع القدرة على ذلك، قال المرداوي في الإنصاف: تجب الهجرة على من يعجز عن إظهار دينه في دار الحرب. اهـ.
وسئل الرملي عن المسلمين الساكنين في وطن من الأوطان الأندلسية يسمى أرغون، وهم تحت ذمة السلطان النصراني، يأخذ منهم خراج الأرض بقدر ما يصيبونه فيها، ولم يتعد عليهم بظلم غير ذلك، لا في الأموال، ولا في الأنفس، ولهم جوامع يصلون فيها، ويصومون رمضان، ويتصدقون، ويفكون الأسارى من أيدي النصارى إذا حلوا بأيديهم، ويقيمون حدود الإسلام جهرا كما ينبغي، ويظهرون قواعد الشريعة عيانا كما يجب، ولا يتعرض لهم النصراني في شيء من أفعالهم الدينية، ويدعون في خطبهم لسلاطين المسلمين من غير تعيين شخص، ويطلبون من الله نصرهم، وهلاك أعدائهم الكفار، وهم مع ذلك يخافون أن يكونوا عاصين بإقامتهم ببلاد الكفر، فهل تجب عليهم الهجرة، وهم على هذه الحالة من إظهار الدين، نظرا إلى أنهم ليسوا على أمان أن يكلفوهم الارتداد - والعياذ بالله تعالى - أو على إجراء أحكامهم عليهم، أو لا تجب نظرا إلى ما هم فيه من الحال المذكور؟
فأجاب: بأنه لا تجب الهجرة على هؤلاء المسلمين من وطنهم؛ لقدرتهم على إظهار دينهم به، ولأنه صلى الله عليه وسلم بعث عثمان يوم الحديبية إلى مكة لقدرته على إظهار دينه بها، بل لا تجوز لهم الهجرة منه؛ لأنه يرجى بإقامتهم به إسلام غيرهم، ولأنه دار إسلام، فلو هاجروا منه صار دار حرب، وفيما ذكر في السؤال من إظهارهم أحكام الشريعة المطهرة، وعدم تعرض الكفار لهم بسببها على تطاول السنين الكثيرة ما يفيد الظن الغالب بأنهم آمنون منهم من إكراههم على الارتداد عن الإسلام، أو على إجراء أحكام الكفر عليهم، "والله يعلم المفسد من المصلح". اهـ.
وسئلت اللجنة الدائمة عن الشروط الواجب توفرها في بلد حتى تكون دار حرب أو دار كفر؟
فأجابت: كل بلاد، أو ديار يقيم حكامها، وذوو السلطان فيها حدود الله، ويحكمون رعيتها بشريعة الإسلام، وتستطيع فيها الرعية أن تقوم بما أوجبته الشريعة الإسلامية عليها؛ فهي دار إسلام. وكل بلاد، أو ديار لا يقيم حكامها، وذوو السلطان فيها حدود الله، ولا يحكمون في الرعية بحكم الإسلام، ولا يقوى المسلم فيها على القيام بما وجب عليه من شعائر الإسلام؛ فهي دار كفر. ومن عجز عن الهجرة منها من الرجال، والنساء، والولدان فهو معذور.
أما من قوي من أهلها على إقامة شعائر دينه فيها، وتمكن من إقامة الحجة على الحكام، وذوي السلطان، وأن يصلح من أمرهم، ويعدل من سيرتهم، فيشرع له البقاء بين أظهرهم؛ لما يرجى من إقامته بينهم من البلاغ، والإصلاح، مع سلامته من الفتن. اهـ.
وجاء في الموسوعة الفقهية: إقامة المسلم في دار الحرب لا تقدح في إسلامه، إلا أنه إذا كان يخشى على دينه بحيث لا يمكنه إظهاره تجب عليه الهجرة إلى دار الإسلام.
أما إذا كان لا يخشى الفتنة، ويتمكن من إظهار دينه، مع إقامته في دار الحرب، فإنه يستحب له الهجرة إلى دار الإسلام لتكثير المسلمين، ومعونتهم، ولا تجب عليه الهجرة. اهـ.
وبهذا يعلم أن الإقامة هناك، سواء لفترة محدودة أم على سبيل الاستيطان، لا تجوز مع العجز عن إظهار الدين، وخوف الفتنة، ولا تحرم مع أمن الفتنة، والقدرة على إظهار شعائر الدين.
وإذا جاز للمسلم أن يقيم في دار الحرب: فله أن يعامل أهلها بالبيع والشراء في غير السلاح، وما يستعان به على قتال المسلمين، ومثل البيع: أنواع الإجارات غير الدنيئة، ومنها التطبيب.
قال السرخسي في المبسوط: لا يمنع التجار من دخول دار الحرب بالتجارات، ما خلا الكراع، والسلاح، فإنهم يتقوون بذلك على قتال المسلمين، فيمنعون من حمله إليهم، وكذلك الحديد، فإنه أصل السلاح، قال الله تعالى: {وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد}. اهـ.
وقال في شرح السير الكبير: لا بأس بأن يحمل المسلم إلى أهل الحرب ما شاء، إلا الكراع، والسلاح، والسبي، وألا يحمل إليهم شيئا أحب إلي؛ لأن المسلم مندوب أن يستبعد من المشركين، قال صلى الله عليه وآله وسلم: "لا تستضيئوا بنار المشركين"، وقال: "أنا بريء من كل مسلم مع مشرك لا تراءى ناراهما"، وفي حمل الأمتعة إليهم للتجارة نوع مقاربة معهم، فالأولى ألا يفعل، ولأنهم يتقوون بما يحمل إليهم من متاع، أو طعام، وينتفعون بذلك، والأولى للمسلم أن يحترز عن اكتساب سبب القوة لهم، إلا أنه لا بأس بذلك في الطعام، والثياب، ونحو ذلك؛ لما روي أن ثمامة بن أثال الحنفي أسلم في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقطع الميرة عن أهل مكة، وكانوا يمتارون، فكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسألونه أن يأذن له في حمل الطعام إليهم، فأذن له في ذلك، وأهل مكة يومئذ كانوا حربا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فعرفنا أنه لا بأس بذلك، وهذا لأن المسلمين يحتاجون إلى بعض ما في ديارهم من الأدوية، والأمتعة، فإذا منعناهم ما في ديارنا، فهم يمنعون أيضا ما في ديارهم. اهـ.
وفي هذا ملمح لا بد من مراعاته، وهو أن حاجة المسلمين لبعض ما عند الكفار من العلوم، والحاصلات، والصناعات، والتقنيات الحديثة، قد توجب عليهم، أو على بعضهم أن يهادنهم، وأن يرسل البعثات العلمية إليهم، وأن يقيم معهم علاقات تجارية واسعة، فينبغي لمن ابتلي بذلك أن يجتهد في حفظ دينه أولا، وأن ينوي نفع المسلمين، وصلاح أحوالهم ثانيا.
ويبقى أن من استغنى عن الإقامة عندهم: بتوفر ما يحتاجه من العلم، أو التجارة، أو غير ذلك في بلاد المسلمين، فالأفضل أن يبادر بالرجوع إليها؛ لما يترتب على السكنى بين ظهراني الكفار من محاذير جسيمة، ومخاطر عظيمة، سبق أن ذكرنا طرفا منها في الفتوى رقم: 2007.
والله أعلم.