السؤال
كنت في بداية حياتي بعيدا عن الله، ولم أتقرب منه حتى نصحني شخص بأن أمسح الأغاني من الهاتف وأضع مكانها قرآنا، ففعلت ذلك، ومن هذه اللحظة بدأت حياتي تتغير بشكل بطيء جدا إلى أن هداني الله إليه وتقربت إليه، وكانت الأجواء التي أعيش فيها حين هدايتي قد ساعدتني بشكل كبير بعد فضل الله على الاستمرار، وكنت أعيش حقا حياة سعيدة لم أبال بما ينقصني ولم أهتم بشيء سوى أن أرضي ربي، ومن ثم اضطررنا إلى ترك البيت الذي كنا نعيش فيه وتركت المكان كله وذهبت إلى منزل آخر يخالف كل ما قد قلته، فالمسجد القديم كان متميزا بالرقي والهدوء، وتكون فيه بعيدا عن الدنيا وما بها، والمسجد الذي أصلي فيه بعد أن انتقلت معاكس له بمعنى الكلمة، والمسجد الأول كان فيه شباب وأناس في سني، وكنت متخفيا فيهم فلم أقع في المشكلة التي حدثت معي لاحقا، والمسجد الثاني ينعدم فيه الشباب تماما، وأصبحت ظاهرا أمام أعين الناس أحافظ على الصلوات وآتي المسجد مبكرا، فأصبت بعين قصمت ظهري حقا، ولم أكن أتوقع أن أصاب بعين، وكنت حينها في غفلة عن ذكر الله، فعشعشت العين في حتى صرت أشعر بجحيم في صدري عندما أصلي النوافل مما وهو يوم تاريخي الذي أصليها جميعا فيه وتدمرت إيمانياتي كلها، وبسبب البيئة المريضة التي أعيش فيها ابتليت بحب التصدر حين أصبحت أرى غيري يملك الإمامة في المسجد ويكون صوته غير حسن أرى نفسي أفضل منه، وبالتدريج صار عندي حب تصدر وعجب بذاتي، ومع الوقت ابتليت بالغلو في الدين وهذا زاد الطينة بلة أكثر، فما أصابني يجعلني أتساهل في الدين وأصبح عندي غلو أيضا، فبداخلي حرب نفسية بينهما مما أعجز أن أصفه وصارت عندي وسوسة حقا تدمرت بكل الأوصاف في كل شيء، وأخيرا كنت سأبتلى بقسوة القلب والشدة على الناس والغلظة عليهم ولكنني تفاديته، ومع هذا كله يظن الناس أنني أنا الفتى التقي النقي الورع، والبيئة التي أعيش فيها الآن بيئة شعبية دنيئة لا يغلب عليها الرقي، والأغلب فيها أنهم لا يعرفون الدين إلا من رحم ربي، وأنا أحفظ من القرآن سورة البقرة وآل عمران والنساء، وعلى مقربة من أن أنهي سورة المائدة، ويجب علي أن ألتزم بوردي اليومي وهو أربعة أجزاء يوميا حتى لا أنسى القرآن، وفي أيامي هذه لا أنهي جزءا واحدا، وأخشى من العين والغلو والتفريط وحب التصدر والعجب وحب الشهرة والكبر، ولا أجد من يعينني على استرجاع ما كنت عليه، فكل شيء ضدي وليس هناك من يساعدني وأنا على وشك زيغ القلب أريد أن أرجع إلى حياتي الهادئة، ومنذ أربعة أشهر وأنا على هذا الحال وأريد أن اقوم الليل كاملا يوميا.. وكلما دعوت الله أن يصلح حالي أشعر بأن الإجابة تتأخر، وهذا يضيق صدري، لأن الله هو الذي يشفيني في غمضة عين، وأنا مسلم لهذا ولست معترضا، ولكنني في أمس الحجة إلى الإجابة من غير تأخير.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله أن يشرح صدرك، وأن يزيدك هدى ونورا، ومن المهم للمسلم أن يتجافى عن الإكثار من الشكوى إلى الخلق فيما يتعلق بحاله مع ربه، فإن العلاج معروف لا يجهله أحد وهو: تقوى الله وامتثال أوامره، والبعد عما يسخط الله، وجميع النصائح التي يمكن أن تتلقاها لن تخرج عن هذا المعنى، واعلم أن من تطلب منه التوجيه والنصح هو مجرد مذكر ولا يملك حلا خارقا، والهداية بيد الله وحده، فمن هداه، فلا مضل له، ومن أضله فلا هداية له، فعلى المسلم أن يضرع إلى الله بالمسألة والدعاء أن يمن عليه بالهداية والإيمان، وأن يجعل شكواه إلى الله عز وجل، فهو الهادي وحده سبحانه، وإذا وجد الشخص تغيرا في قلبه وحاله مع الله فليجأ إلى التوبة والاستغفار، فإن العبد لا يحرم خيرا إلا بذنبه وتقصيره، قال ابن تيمية: والاستغفار من أكبر الحسنات، وبابه واسع، فمن أحس بتقصير في قوله أو عمله أو حاله أو رزقه أو تقلب قلب، فعليه بالتوحيد والاستغفار، ففيهما الشفاء إذا كانا بصدق وإخلاص. اهـ.
والمؤمن يسيء الظن بنفسه ويخشى على نفسه أدواء القلوب من النفاق والرياء والعجب ونحوها، لكن لا يصل ذلك بالمؤمن إلى القنوط وترك العمل، بل المقصود من ذلك أن يحاسب نفسه وأن يعمل على إصلاحها، وأن يزداد قربا إلى الله يوما بعد يوم، ولا ريب في أن العين حق، كما في حديث الصحيحين، لكن لا ينبغي أن يحيل الشخص كل مكروه يصيبه إلى العين والحسد، والذي ينبغي أن يحصن المسلم نفسه بالأذكار وإصلاح قلبه والتوكل على الله، ويدرأ بذلك شرور الأنفس الخبيثة عنه، وقولك: وأريد أن اقوم الليل كاملا يوميا ـ فزادك الله حرصا على الخير، لكن قد ذهب كثير من أهل العلم إلى كراهة قيام الليل كله، كما بيناه في الفتوى رقم: 203404.
وقولك: وكلما دعوت الله أن يصلح حالي أشعر بإن الإجابة تتأخر وهذا يضيق صدري، لأن الله هو الذي يشفيني في غمضة عين وأنا مسلم لهذا ولست معترضا، ولكنني في أمس الحاجة إلى الإجابة من غير تأخير ـ فاعلم أن الاستعجال الذي يؤدي لترك الدعاء والتقصير فيه منهي عنه، وقد يكون من أسباب منع الإجابة، كما في حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا يزال يستجاب للعبد، ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم، ما لم يستعجل، قيل: يا رسول الله ما الاستعجال؟ قال: يقول: قد دعوت وقد دعوت، فلم أر يستجيب لي، فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء. أخرجه مسلم.
ومن حيل بينه وبين إجابة دعائه فليتفقد حاله، فرب ذنب أغلق عن صاحبه أبواب الإجابة، قال ابن القيم: والأدعية والتعوذات بمنزلة السلاح، والسلاح بضاربه، لا بحده فقط، فمتى كان السلاح سلاحا تاما لا آفة به، والساعد ساعد قوي والمانع مفقود، حصلت به النكاية في العدو، ومتى تخلف واحد من هذه الثلاثة تخلف التأثير، فإن كان الدعاء في نفسه غير صالح، أو الداعي لم يجمع بين قلبه ولسانه في الدعاء، أو كان ثم مانع من الإجابة، لم يحصل الأثر. اهـ.
وعلى المسلم أن يكون حسن الظن بربه عز وجل في دعائه، قال ابن القيم: ومن ظن به أنه إذا صدقه في الرغبة والرهبة وتضرع إليه وسأله، واستعان به وتوكل عليه أنه يخيبه ولا يعطيه ما سأله، فقد ظن به ظن السوء، وظن به خلاف ما هو أهله. اهـ.
والله أعلم.