السؤال
قام الشيخ ناصر الدين الألباني بتضعيف بعض الأحاديث التي رواها مسلم في صحيحه؛ لعنعنة أبي الزبير عن جابر، فهل نتابعه على ذلك في التضعيف؟ أم نبقى على تصحيح مسلم، وعلماء الأمة من ذلك الوقت إلى يومنا هذا؟
قام الشيخ ناصر الدين الألباني بتضعيف بعض الأحاديث التي رواها مسلم في صحيحه؛ لعنعنة أبي الزبير عن جابر، فهل نتابعه على ذلك في التضعيف؟ أم نبقى على تصحيح مسلم، وعلماء الأمة من ذلك الوقت إلى يومنا هذا؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد أجبنا عن ذلك في الفتوى رقم: 140326، ونزيدك إيضاحا، فنقول: اعلم أن كثيرا من المحدثين يرون أن عنعنة المدلس في الصحيحين محمولة على الاتصال؛ قال السخاوي في فتح المغيث: (وفتش) الصحاح، فإنك تجد بها التخريج لجماعة كثيرين مما صرحوا فيه، بل ربما يقع فيها من معنعنهم، ولكن هو - كما قال ابن الصلاح، وتبعه النووي، وغيره - محمول على ثبوت السماع عندهم فيه من جهة أخرى، إذا كان في أحاديث الأصول، لا المتابعات؛ تحسينا للظن بمصنفيها، يعني: ولو لم نقف نحن على ذلك، لا في المستخرجات التي هي مظنة لكثير منه، ولا في غيرها.
وأشار ابن دقيق العيد إلى التوقف في ذلك، فإنه قال - بعد تقرير أن معنعن المدلس كالمنقطع، ما نصه: وهذا جار على القياس، إلا أن الجري عليه في تصرفات المحدثين وتخريجاتهم صعب عسير، يوجب اطراح كثير من الأحاديث التي صححوها; إذ يتعذر علينا إثبات سماع المدلس فيها من شيخه، اللهم إلا أن يدعي مدع أن الأولين اطلعوا على ذلك، وإن لم نطلع نحن عليه، وفي ذلك نظر. انتهى.
وأحسن من هذا كله قول القطب الحلبي في القدح المعلى: أكثر العلماء أن المعنعنات التي في الصحيحين منزلة منزلة السماع"، يعني إما لمجيئها من وجه آخر بالتصريح، أو لكون المعنعن لا يدلس إلا عن ثقة، أو عن بعض شيوخه، أو لوقوعها من جهة بعض النقاد المحققين سماع المعنعن لها.
وقال السيوطي في تدريب الراوي ممزوجا بالتقريب للنووي: (وما كان في الصحيحين وشبههما) من الكتب الصحيحة، عن المدلسين بعن، فمحمول على ثبوت السماع) له (من جهة أخرى)، وإنما اختار صاحب الصحيح طريق العنعنة على طريق التصريح بالسماع؛ لكونها على شرطه دون تلك. انتهى.
ثم إن عنعنة أبي الزبير عن جابر بخصوصها في صحيح مسلم احتملها العلماء؛ لعلة ذكرها الحافظ العلائي في جامع التحصيل فقال: محمد بن مسلم أبو الزبير المكي مشهور بالتدليس، قال سعيد بن أبي مريم: ثنا الليث بن سعد، قال: جئت أبا الزبير، فدفع لي كتابين، فانقلبت بهما، ثم قلت في نفسي: لو أني عاودته فسألته: أسمع هذا كله من جابر: قال، سألته فقال: منه ما سمعت، ومنه ما حدثت عنه، فقلت له: اعلم لي على ما سمعت منه، فأعلم لي على هذا الذي عندي.
ولهذا توقف جماعة من الأئمة عن الاحتجاج بما لم يروه الليث عن أبي الزبير عن جابر، وفي صحيح مسلم عدة أحاديث مما قال فيه أبو الزبير عن جابر، وليست من طريق الليث، وكأن مسلما - رحمه الله - اطلع على أنها مما رواه الليث عنه، وإن لم يروها من طريقه، والله أعلم. انتهى.
فالصواب هو السير خلف القافلة الكبرى من علماء المسلمين من تلقي أحاديث صحيح مسلم بالقبول؛ قال ابن تيمية - رحمه الله - في رفع الملام: فليس كل ما في الكتب يعلمه العالم, ولا يكاد ذلك يحصل لأحد, بل قد يكون عند الرجل الدواوين الكثيرة، وهو لا يحيط بما فيها.
بل الذين كانوا قبل جمع هذه الدواوين كانوا أعلم بالسنة من المتأخرين بكثير؛ لأن كثيرا مما بلغهم، وصح عندهم قد لا يبلغنا إلا عن مجهول؛ أو بإسناد منقطع؛ أو لا يبلغنا بالكلية, فكانت دواوينهم صدورهم التي تحوي أضعاف ما في الدواوين, وهذا أمر لا يشك فيه من علم القضية. انتهى.
والله أعلم.