الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا ريب في أن الله تعالى لا يحرم شيئا إلا لحكمة، ولا تقتصر هذه الحكمة على الضرر المادي الذي يصيب الإنسان في دنياه، فوراء ذلك حكم لا يحيط بها علما إلا الله تعالى، وبالجملة فيمكن أن ندرك شيئا من ذلك مما ذكره الراغب الأصفهاني في تفسيره، حيث قال: اعلم أن تحريم الله على ثلاثة أضرب:
الأول: تحريمه الخبائث وكل ما ليس له هذا بوجه، والبدن تعافه كالذباب والخنافس والأشياء المخلوقة من فضول البدن، وهذا الجنس يحرم عقلا وشرعا.
الثاني: ما يعلم ضره أكثر من نفعه، وقد يظن بعض الناس فيه نفعا كثيرا، فهو مترد من التحريم والتخيل في العقل.
وضرب نافع في الأحوال الدنيوية جدا، إلا أن نفعه ليس بضروري، والعقل لا يقتضي تحريمه، والشرع قد حرمه في حال دون حال، تهذيبا للنفوس عبادة، ودفعا لسلطان شهوتهم، كتحريم الشحم على بني إسرائيل، وهو ما قال تعالى: وعلى الذين هادوا حرمنا ـ الآية، فنبه تعالى أنهم لما أسرفوا وصاروا يظلمون، ويصدون عن سبيل الله، حرم عليهم بعض الأطعمة، ليكون في ذلك عقوبة لهم من وجه، وتهذيب يقمع شهوتهم من وجه، فقلة الطعم سبب لتوهين الشهوة، ولتوهينها أمر تعالى في كل شرع بصوم، ليكون ذلك سببا لمنعها عما تدعو إليه، فلا تكون كالبهائم التي تأكل ما تشتهي. اهـ.
ولذلك قال تعالى: وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك ـ ختمه بقوله: جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون {الأنعام: 146}.
ومن ذلك أيضا قوله تعالى: فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا { النساء:160}.
قال الشعراوي في تفسيره: المؤمن ينفذ كل الأحكام حتى في الأشياء غير الضارة، فمن الذي قال: إن الله لا يحرم إلا الشيء الضار؟ إنه قد يحرم أمرا تأديبا للإنسان، والحق يقول: فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم {النساء: 160} فالذي يذهب إلى تنفيذ حكم الله إنما يذهب إليه لأن الله قد قاله، لا لأن حكمة الحكم مفيدة له، فلو ذهب إنسان إلى الحكم من أجل فائدته أو ضرره فإن الإيمان يكون ناقصا، والله يدير في كثير من الأوقات حكمته في الأحكام حتى يرى الإنسان وجها من الوجوه اللانهائية لحكمة الله التي خفيت عليه، فيقول الإنسان: أنا كنت أقف في حكمة كذا، ثم بينت لي الأحداث والأيام صدق الله فيما قال. اهـ.
وبخصوص التحريم في الشريعة الإسلامية الحنيفية فالغالب عليه ظهور الحكمة، وتلقي العقول له بالقبول والتسليم، ومن كليات القرآن ومحكماته في هذا، قوله تعالى: قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون * ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون * وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون {الأنعام: 151ـ 153}.
وقوله سبحانه: قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون {الأعراف: 33}.
فالتحريم فيها يجمع الأمرين: بغض الله تعالى للمحرمات، ودرء المفاسد في العاجل أو الآجل، وتكميل المصالح فيهما، قال العز بن عبد السلام في قواعد الأحكام في مصالح الأنام: الشريعة طافحة بذلك ويدل على ذلك جميعا قوله تعالى: وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان {المائدة: 2} وهذا نهي عن التسبب إلى المفاسد، وأمر بالتسبب إلى تحصيل المصالح، وقوله تعالى: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى {النحل: 90} وهذا أمر بالمصالح وأسبابها، ونهي عن الفحشاء والمنكر والبغي، وهذا نهي عن المفاسد وأسبابها، والآيات الآمرة بالإصلاح والزاجرة عن الإفساد كثيرة، وهي مشتملة على الأمر المتعلق بحقوق الله وحقوق عباده، وعن النهي على الإفساد المتعلق بحقوق الله وحقوق عباده... والكتاب والسنة يشتملان على الأمر بالمصالح كلها دقها وجلها، وعلى النهي عن المفاسد كلها، دقها وجلها. اهـ.
وقال في موضع آخر: أجمع آية في القرآن للحث على المصالح كلها والزجر عن المفاسد بأسرها قوله تعالى: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون {النحل: 90} فإن الألف واللام في العدل والإحسان للعموم والاستغراق، فلا يبقى من دق العدل وجله شيء إلا اندرج في قوله: إن الله يأمر بالعدل ـ ولا يبقى من دق الإحسان وجله شيء إلا اندرج في أمره بالإحسان، والعدل هو التسوية والإنصاف، والإحسان: إما جلب مصلحة أو دفع مفسدة، وكذلك الألف واللام في الفحشاء والمنكر والبغي عامة مستغرقة لأنواع الفواحش ولما يذكر من الأقوال والأعمال، وأفرد البغي ـ وهو ظلم الناس ـ بالذكر مع اندراجه في الفحشاء والمنكر للاهتمام به، فإن العرب إذا اهتموا أتوا بمسميات العام، ولهذا أفرد البغي وهو الظلم مع اندراجه في الفحشاء والمنكر للاهتمام به، كما أفرد إيتاء ذي القربى بالذكر مع اندراجه بالعدل والإحسان. اهـ.
وقال الشاطبي في الموافقات: الشريعة كلها إنما هي تخلق بمكارم الأخلاق، ولهذا قال عليه السلام: بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ـ إلا أن مكارم الأخلاق إنما كانت على ضربين:
أحدهما: ما كان مألوفا وقريبا من المعقول المقبول، كانوا في ابتداء الإسلام إنما خوطبوا به، ثم لما رسخوا فيه تمم لهم ما بقي، وهو: الضرب الثاني، وكان منه ما لا يعقل معناه من أول وهلة فأخر، حتى كان من آخره تحريم الربا، وما أشبه ذلك، وجميع ذلك راجع إلى مكارم الأخلاق. اهـ.
وقال السعدي في تفسيره: أخبر تعالى أنه حرم على أهل الكتاب كثيرا من الطيبات التي كانت حلالا عليهم، وهذا تحريم عقوبة بسبب ظلمهم واعتدائهم... وأما التحريم الذي على هذه الأمة فإنه تحريم تنزيه لهم عن الخبائث التي تضرهم في دينهم ودنياهم. اهـ.
وقال الشنقيطي في مجالس التفسير: الله جل وعلا حرم هذه الأشياء التي هي: الميتة، والدم، ولحم الخنزير، ومعروف أن الله لا يحرم شيئا إلا لحكمة، ولا يحرم شيئا إلا للضرر، فقد يهتدي بعض الناس إلى حكمة ذلك الشيء، وقد يعجز البشر عن إدراكها، فالله جل وعلا محيط علمه بكل شيء، ولا يحرم إلا لحكمة، لا يحرم شيئا إلا وهو متضمن أضرارا عظيمة، وهذه الأضرار قد يتحصلها البشر، وقد يعجز عنها إدراك البشر، لأن علم الخالق جل وعلا محيط بكل شيء، يعلم أشياء يتقاصر عنها فهم البشر. اهـ.
وقد أشار القرآن إلى أن الله تعالى لا يحب مثل هذه المحرمات وأصحابها، كما قال سبحانه: وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين {القصص: 77}.
وقال تعالى: ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور {لقمان: 18}.
وقال تعالى: وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين {الأنفال: 58}.
وقال سبحانه: وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد {البقرة: 205}.
وقال عز وجل: لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم {النساء: 148}.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس أحد أحب إليه المدح من الله عز وجل، من أجل ذلك مدح نفسه، وليس أحد أغير من الله، من أجل ذلك حرم الفواحش، وليس أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك أنزل الكتاب وأرسل الرسل. رواه البخاري ومسلم، واللفظ له.
وراجع لمزيد الفائدة الفتوى رقم: 48784.
والله أعلم.