السؤال
هل تعد الذنوب والمعاصي والكبائر من أنواع الابتلاء؟.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن الله تعالى قد خلق الإنسان ليبتليه ويمتحنه ويختبره، كما قال الله تعالى: وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا {هود:7}.
وقال سبحانه: الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور {الملك:2}.
وهذا الامتحان يكون بالأحكام الشرعية كالأوامر والنواهي هل يعمل بالشرع امتثالا واجتنابا أم لا، ويكون كذلك بالأحكام القدرية ـ سواء ما نكره منها كالمصائب والشدائد، أو ما نحب كالأموال والأولاد ـ هل يشكر النعمة ويصبر على البلاء أم لا؟ كما قال تعالى: ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون {الأنبياء:35}.
وقال تعالى إخبارا عن سليمان: فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم {النمل:40}.
وقال ابن القيم في طريق الهجرتين: الحكمة الإلهية اقتضت تركيب الشهوة والغضب في الإنسان، أو بعضها، ولو لم يخلق فيه هذه الدواعي لم يكن إنسانا، بل ملكا، فالذنب من موجبات البشرية، كما أن النسيان من موجباتها، ولا يتم الابتلاء والاختبار إلا بذلك. اهـ.
ولكن الله برحمته فتح للعبد باب التوبة كلما صدر منه الذنب، وقد قال الله تعالى: وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات {الشورى:25}.
وقال تعالى: وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى {طه:82}.
وفي الحديث: التائب من الذنب كمن لا ذنب له. رواه ابن ماجه أيضا.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون. رواه الترمذي، وابن ماجه، وأحمد وحسنه الألباني.
قال المناوي في فيض القدير: يعني أن العبد لابد أن يجري عليه ما سبق به القدر، فكأنه قال: لا بد لك من فعل الذنوب والخطايا؛ لأن ذلك مكتوب عليك، فأحدث توبة، فإنه لا يؤتى العبد من فعل المعصية، وإن عظمت، وإنما يؤتى من ترك التوبة وتأخيرها. اهـ.
وقال الصنعاني في سبل السلام: الحديث دال على أنه لا يخلو من الخطيئة إنسان، لما جبل عليه هذا النوع من الضعف وعدم الانقياد لمولاه، في فعل ما إليه دعاه، وترك ما عنه نهاه، ولكنه تعالى بلطفه فتح باب التوبة لعباده، وأخبر أنه خير الخطائين التوابون، المكثرون للتوبة على قدر كثرة الخطأ. اهـ.
وقال العثيمين في شرح رياض الصالحين: الإنسان مهما بلغ من التقوى، فإنه لابد أن يخطئ، كما جاء في الحديث عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال: كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون ـ وقال عليه الصلاة والسلام: لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم. اهـ.
ومما يدل على ذلك أيضا قوله صلى الله عليه وسلم: ما من عبد مؤمن إلا وله ذنب يعتاده الفينة بعد الفينة، أو ذنب هو مقيم عليه لا يفارقه حتى يفارق الدنيا، إن المؤمن خلق مفتنا توابا نسيا، إذا ذكر ذكر. رواه الطبراني، وصححه الألباني.
قال المناوي: مفتنا ـ أي ممتحنا يمتحنه الله بالبلاء، والذنوب مرة بعد أخرى، والمفتن الممتحن الذي فتن كثيرا، توابا نسيا إذا ذكر ذكر ـ أي: يتوب، ثم ينسى فيعود، ثم يتذكر فيتوب، هكذا يقال: فتنه يفتنه إذا امتحنه. اهـ.
وعن أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: علمني دعاء أدعو به في صلاتي، قال: قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم. رواه البخاري ومسلم.
قال ابن دقيق العيد في إحكام الأحكام: قوله: إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ـ دليل على أن الإنسان لا يعرى من ذنب وتقصير، كما قال عليه الصلاة والسلام: استقيموا، ولن تحصوا ـ وفي الحديث: كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون ـ وربما أخذوا ذلك من حيث الأمر بهذا القول مطلقا من غير تقييد، وتخصيص بحالة، فلو كان ثمة حالة لا يكون فيها ظلم ولا تقصير لما كان هذا الإخبار مطابقا للواقع.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: الذنب للعبد كأنه أمر حتم، فالكيس هو الذي لا يزال يأتي من الحسنات بما يمحو السيئات. اهـ.
وقال أيضا: في قوله تعالى: وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون ـ فوائد جليلة: منها: أن أمره لجميع المؤمنين بالتوبة في هذا السياق تنبيه على أنه لا يخلو مؤمن من بعض هذه الذنوب التي هي: ترك غض البصر، وحفظ الفرج، وترك إبداء الزينة، وما يتبع ذلك، فمستقل ومستكثر، كما في الحديث: ما من أحد من بني آدم إلا أخطأ، أو هم بخطيئة، إلا يحيى بن زكريا ـ وذلك لا يكون إلا عن نظر، وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون ـ وفي الصحيح عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم: يقول الله تعالى: يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعا ولا أبالي، فاستغفروني أغفر لكم ـ وفي الصحيحين عن ابن عباس قال: ما رأيت شيئا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا، أدرك ذلك لا محالة، فزنا العينين النظر، وزنا اللسان النطق. اهـ.
والله أعلم.