الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن الرقية مشروعة في أصلها بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وفعله، والأفضل للمسلم أن يرقي نفسه؛ كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يرقي نفسه، ولا حرج عليه أن يسترقي من جرب نفعه من أهل الصلاح، ففي الصحيحين عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث، فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه وأمسح بيده رجاء بركتها.
وقد عد صلى الله عليه وسلم من صفات السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب أنهم لا يسترقون، أي لا يطلبون الرقية من غيرهم، وثبت أنه صلى الله عليه وسلم رقاه جبريل وكان هو يرقي بعض أهله، فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي سعيد ـ رضي الله عنه: أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد اشتكيت، فقال: نعم. قال: بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك، بسم الله أرقيك.
وفي رواية ابن ماجه ما يوضح أن جبريل قرأها على النبي صلى الله عليه وسلم وهو مريض، فعن عبادة بن الصامت ـ رضي الله عنه ـ قال: أتى جبريل عليه السلام النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوعك، فقال: بسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من حسد حاسد ومن كل عين الله يشفيك. وحسنه الألباني.
وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم: كان إذا مرض أحد من أهل بيته، نفث عليه بالمعوذات.
وأما عن طريقة الرقية: فليس هناك شيء لازم أو عدد لازم، فيمكن أن تقرأ في الزيت أو الماء أو زمزم، ويمكن للراقي أن يضع يده على المريض، والمهم هو إيصال أثر الرقية إلى المريض، والأفضل أن يتم ذلك عبر واحدة من الوسائل الثلاث: النفث، أو النفخ، أو المسح، وقد ذكر أهل العلم أن الرقية الشرعية تنفع من العين والسحر والمس، وكذا الأمراض العضوية ـ بإذن الله تعالى ـ قال ابن مفلح: وقال صالح بن الإمام أحمد: ربما اعتللت فيأخذ أبي قدحا فيه ماء فيقرأ عليه، ويقول لي: اشرب منه، واغسل وجهك ويديك، ونقل عبد الله أنه رأى أباه ـ يعني أحمد بن حنبل ـ يعوذ في الماء، ويقرأ عليه ويشربه، ويصب على نفسه منه.
وقال ابن مفلح أيضا: وقال يوسف بن موسى: أن أبا عبد الله كان يؤتى بالكوز ونحن بالمسجد، فيقرأ عليه ويعوذ. اهـ.
وقال الشيخ ابن جبرين: وثبت عن السلف القراءة في ماء ونحوه، ثم شربه أو الاغتسال به، مما يخفف الألم أو يزيله لأن كلام الله تعالى شفاء، كما في قوله تعالى: قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد {فصلت:44} وهكذا القراءة في زيت أو دهن أو طعام ثم شربه، أو الأدهان به أو الاغتسال به، فإن ذلك كله استعمال لهذه القراءة المباحة التي هي كلام الله وكلام رسوله.
وأما عن عدد قراءة الرقية: فقد ثبت الترغيب في جعله وترا، وجاء في بعض النصوص أنه سبع مرات، فقد روى الترمذي وصححه، عن عثمان بن أبي العاص قال: أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم وبي وجع قد كاد يهلكني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: امسح بيمينك سبع مرات وقل: أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد، قال: ففعلت هذا فأذهب الله ما كان في، فلم أزل آمر به أهلي وغيرهم.
ولمسلم: ضع يدك على الذي يألم من جسدك وقل: بسم الله ثلاث مرات، وقل: سبع مرات ـ وذكره وفي آخره: وأحاذر.
وعن محمد بن سالم قال: قال لي ثابت البناني: يا محمد؛ إذا اشتكيت فضع يدك حيث تشتكي ثم قل: أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد من وجعي هذا، ثم ارفع يدك، ثم أعد ذلك وترا، فإن أنس بن مالك حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثه بذلك. رواه الترمذي، وصححه الألباني.
وقد ذكر أهل العلم في طريقة القراءة على الماء أن يقرب الراقي فمه من الإناء الذي فيه الماء ثم يقرأ ما تيسر من القرآن ثم ينفث على الماء، قال ابن القيم في المدارج: كان يعرض لي آلام مزعجة بحيث تكاد تقطع الحركة مني وذلك في أثناء الطواف وغيره فأبادر إلى قراءة الفاتحة وأمسح بها على محل الألم فكأنه حصاة تسقط، جربت ذلك مرارا عديدة وكنت آخذ قدحا من ماء زمزم فأقرأ عليه الفاتحة مرارا فأشربه فأجد به من النفع والقوة ما لم أعهد مثله في الدواء... اهـ.
وفي الآداب الشرعية لابن مفلح: قال صالح ـ يعني ابن الإمام أحمد رحمهما الله تعالى ـ ربما اعتللت فيأخذ أبي قدحا فيه ماء فيقرأ عليه ويقول لي: اشرب منه واغسل وجهك ويديك، ونقل عبد الله أنه رأى أباه يعوذ في الماء ويقرأ عليه ويشربه ويصب على نفسه منه، قال عبد الله: ورأيته قد أخذ قصعة النبي صلى الله عليه وسلم فغسلها في جب الماء ثم شرب فيها، ورأيته غير مرة يشرب ماء زمزم فيستشفي به ويمسح به يديه ووجهه.
وقال يوسف بن موسى: إن أبا عبد الله كان يؤتى بالكوز ونحن بالمسجد فيقرأ عليه ويعوذ.... اهـ.
وفي مجلة البحوث الإسلامية: أن الشيخ محمد إبراهيم مفتي المملكة أرسل لمن استفتاه فقال: قد وصل إلي كتابك المتضمن السؤال عن النفث في الماء ثم يسقاه المريض استشفاء بريق ذلك النافث وما على لسانه حينئذ من ذكر الله تعالى أو شيء من الذكر كآية من القرآن ونحو ذلك، فأقول وبالله التوفيق: لا بأس بذلك، فهو جائز، بل قد صرح العلماء باستحبابه، وبيان حكم هذه المسألة مدلول عليه بالنصوص النبوية، وكلام محققي الأئمة، وهذا نصها: قال البخاري في صحيحه: باب النفث في الرقية ـ ثم ساق حديث أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا رأى أحدكم شيئا يكرهه فلينفث حين يستيقظ ثلاثا ويتعوذ من شرها، فإنها لا تضره ـ وساق حديث عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه نفث في كفيه بقل هو الله أحد والمعوذتين جميعا ثم يمسح بهما وجهه وما بلغت يداه من جسده ـ وروى حديث أبي سعيد في الرقية بالفاتحة، ونص رواية مسلم: فجعل يقرأ أم القرآن ويجمع بزاقه ويتفل فبرأ الرجل.... وقال النووي: فيه استحباب النفث في الرقية، وقد أجمعوا على جوازه، واستحبه الجمهور من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وتكلم ابن القيم في الهدي في حكمة النفث وأسراره بكلام طويل، قال في آخره: وبالجملة فنفس الراقي تقابل تلك النفوس الخبيثة وتزيد بكيفية نفسه وتستعين بالرقية والنفث على إزالة ذلك الأثر، واستعانته بنفثه كاستعانة تلك النفوس الرديئة بلسعها، وفي النفث سر آخر، فإنه مما تستعين به الأرواح الطيبة والخبيثة، ولهذا تفعله السحرة كما يفعله أهل الإيمان. اهـ.
وفي رواية مهنا عن أحمد: في الرجل يكتب القرآن في إناء ثم يسقيه المريض، قال: لا بأس به، وقال صالح: ربما اعتللت فيأخذ أبي ماء فيقرأ عليه ويقول لي: اشرب منه واغسل وجهك ويديك. اهـ.
وأما عن صحة معرفة الراقي لحال المريض بدون أن يسأله: فليس عندنا ما يثبت صحة ذلك، بل نخاف أن يكون فاعل ذلك ممن يستعين بالجن إن لم تكن هناك أعراض يعرفها المختص في الطب النفسي.
وأما المدة التي تسمع فيها الآيات: فليست محددة، وإنما يكرر سماعها حتى يحصل المطلوب.
وأما الرقية عن بعد والرقية بالأشرطة المسموعة: فلا تخلو من فائدة ولا سيما إذا صحبها الدعاء بظهر الغيب، ولكن ذكر أهل العلم أن النفث ضروري في الرقية وهو مفقود في الرقية عن بعد وسماع الرقية المسجلة، فقد ذكر النووي في شرح مسلم أن النفث استحبه الجمهور من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وفي فتاوى اللجنة الدائمة أن مباشرة الراقي رقية المصاب أمر ضروري للحاجة للنفث على المرقي وأنه لا يغني سماع الشريط، إلا أن هذا لا يمنع أن تحصل الاستفادة نسبيا من سماع الرقية عن بعد بواسطة التلفاز أو غيره، وقد قدمنا فتوى اللجنة الدائمة في ذلك في الفتوى رقم: 95936.
وراجع للمزيد من التفصيل في الرقية الفتويين رقم: 80694، ورقم: 12505.
والله أعلم.