السؤال
قالت لي فتاة بأن شيخها أخبرها أن من تاب بعد معصية أفضل ممن لم يفعلها من البداية؛ لأن الله يبدل سيئات التائب حسنات، أما الآخر فلا حسنة ولا سيئة.
وهى الآن تريد أن تفعل ذلك (أي: أن تفعل المعصية، وتتوب بعدها، كى تكون أفضل ممن لم يفعلها)، ألا يعد هذا الفعل بدعة؟ حيث إننا لم نسمع عن أحد من السلف الصالح فعل ذلك، ولا حتى الرسول صلى الله عليه وسلم.
وجزاكم الله خيرا.
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فهذا الذي تريده تلك الفتاة من الإقدام على المعصية، بزعم إرادة التوبة منها؛ هو من تلبيس الشيطان عليها، وغروره لها، فما يؤمنها أنها لا تقبض على هذه المعصية، فتسوء خاتمتها -والعياذ بالله-، وما يدريها أنها تتمكن من التوبة من تلك المعصية، وتوفق لها، ومن يضمن لها أن توبتها إذا قدر أنها تابت تكون مقبولة، والواجب على المسلم أن يحذر المعاصي صغيرها والكبير، وألا يقدم على شيء منها؛ فإن الإقدام على المعصية نذير شر، فالمعاصي يأخذ بعضها برقاب بعض، ويدعو فعل بعضها إلى فعل بعض، فالمستهين بالمعصية بزعم التوبة أقرب إلى مواقعة ما هو أعظم منها منه إلى التوبة، فليحذر العاقل، وليكن على وجل، قال ابن القيم في بيان عقوبات المعاصي: ومنها أن المعاصي تزرع أمثالها، وتولد بعضها بعضا، حتى يعز على العبد مفارقتها والخروج منها، كما قال بعض السلف: إن من عقوبة السيئة السيئة بعدها، وإن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها، فالعبد إذا عمل حسنة قالت أخرى إلى جنبها: اعملني أيضا، فإذا عملها، قالت الثالثة كذلك، وهلم جرا، فتضاعف الربح، وتزايدت الحسنات. وكذلك كانت السيئات أيضا، حتى تصير الطاعات والمعاصي هيئات راسخة، وصفات لازمة، وملكات ثابتة، فلو عطل المحسن الطاعة لضاقت عليه نفسه، وضاقت عليه الأرض بما رحبت، وأحس من نفسه بأنه كالحوت إذا فارق الماء، حتى يعاودها، فتسكن نفسه، وتقر عينه. ولو عطل المجرم المعصية وأقبل على الطاعة؛ لضاقت عليه نفسه وضاق صدره، وأعيت عليه مذاهبه، حتى يعاودها، حتى إن كثيرا من الفساق ليواقع المعصية من غير لذة يجدها، ولا داعية إليها، إلا بما يجد من الألم بمفارقتها. كما صرح بذلك شيخ القوم الحسن بن هانئ حيث يقول: وكأس شربت على لذة ... وأخرى تداويت منها بها، وقال الآخر: فكانت دوائي وهي دائي بعينه ... كما يتداوى شارب الخمر بالخمر. ولا يزال العبد يعاني الطاعة، ويألفها، ويحبها، ويؤثرها حتى يرسل الله سبحانه وتعالى برحمته عليه الملائكة تؤزه إليها أزا، وتحرضه عليها، وتزعجه عن فراشه ومجلسه إليها. ولا يزال يألف المعاصي، ويحبها، ويؤثرها حتى يرسل الله إليه الشياطين، فتؤزه إليها أزا. فالأول قوي جند الطاعة بالمدد، فكانوا من أكبر أعوانه، وهذا قوي جند المعصية بالمدد فكانوا أعوانا عليه. انتهى.
وقد حكى الله نظير هذا الأمر عن إخوة يوسف حيث أضمروا التوبة قبل المعصية حين قالوا: اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين {يوسف:9}، قال صاحب الظلال: وهكذا لما غلا في صدورهم الحقد برز الشيطان ليقول لهم: اقتلوا.. والتوبة بعد ذلك تصلح ما فات! وليست التوبة هكذا. إنما تكون التوبة من الخطيئة التي يندفع إليها المرء غافلا جاهلا، غير ذاكر حتى إذا تذكر ندم، وجاشت نفسه بالتوبة. أما التوبة الجاهزة! التوبة التي تعد سلفا قبل ارتكاب الجريمة لإزالة معالم الجريمة، فليست بالتوبة، إنما هي تبرير لارتكاب الجريمة يزينه الشيطان انتهى.
والحاصل: أن هذه حيلة شيطانية، وخطة إبليسية، لا يجوز لمسلم الاسترسال معها، ولا الاستجابة لها.
هذا؛ وننبه إلى أن العلماء اختلفوا في معنى تبديل سيئات التائب حسنات؛ هل هو تبديل حقيقي، أو معناه: أن الله يوفقه لفعل حسنات ماحية لآثار ما اقترفه من الإثم؟ وقد أشبع القول في هذه المسألة ابن القيم في طريق الهجرتين، فلينظره من شاء الزيادة، وإنما مقصودنا هنا: التنبيه على خطورة هذه الشبهة، وخبث هذه المقالة التي يتدرج بها الشيطان لإغواء بعض خلق الله.
والله أعلم.