واجب الابن تجاه أبيه الذي فرط بحقوقه تفريطا تاما

0 126

السؤال

أرجوكم أريد الإجابة بالتفصيل لأنها حالة خاصة.
أبي طلق أمي وكان عمري أياما، وأنا الآن أبلغ من العمر 36 عاما، ولم يسأل عني أبي طيلة هذه الفترة، ولم يرني أو يتدخل في حياتي، حتى إنه حاول التهرب من دفع النفقة، إلا أنه حضر لمدرستي 3 مرات وأنا طفل (أي أن مجموع ما رأيته في حياتي لا يتجاوز الساعتين). مع العلم أنه لم يتم منعه من أحد، لدرجة أني لو رأيته في الشارع لن أعرف أن هذا والدي، ولي منه إخوة وأخوات لم أرهما في حياتي. فهل أنا عاق لأني لا أحاول التواصل معه أو زيارته؟ مع العلم أنه في مدينة مجاورة لمكان سكني، وما يمنعني من محاولة التواصل معه أن والدتي التي قدمت لي كل حياتها وضحت من أجلي ليس لها رغبة بذلك، ولا أريد أن أحزنها، ومن جهة أخرى فأنا لا أكن له بأي مشاعر حب أو اشتياق، حيث إني لا أعرفه، وأنا -والحمد لله- بار بأمي وبأرحامي، فإذا كنت أعتبر عاقا لوالدي، فيكف أعتبر كذلك وهو لم يفعل لي أي شيء في الحياة ولم يقدم أي واجب أو مهمة من مهمات الأب؟!
وإذا كنت أعتبر عاقا في ذلك، فهل على والدتي إثم حيث إنها لم تمنعني ولكنها أبدت عدم تفضيلها وارتياحها وخوفها علي؟
بفضل الله أنا ملتزم، وأتقي الله ما استطعت، ولكن هذا الموضوع يؤرقني ليلا ونهارا، ولا أريد أن يكون سببا لدخولي النار -لا قدر الله-.
وجزاكم الله عنا كل خير.

الإجابــة

 الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فلا شك في أن الأب مسؤول أمام الله تعالى عن أبنائه، فهم أمانة عنده، من حقهم عليه أن يعيلهم ويرعاهم الرعاية الحسنة، قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون {التحريم:6}. قال بعض السلف في معناها: علموهم وأدبوهم. وروى البخاري ومسلم عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته؛ فالأمير الذي على الناس راع وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عنهم ... الحديث.

فإن فرط الأب في هذه الأمانة، ولم يقم بما وجب عليه من غير عذر يحول دون ذلك، فإنه آثم، ومعرض لسخط الله وعذابه؛ روى أحمد وأبو داود عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت". 

فإن كان حال أبيك معك على ما ذكرت، فلا شك في أنه قد فرط تفريطا عظيما، وتساهل فيما لا يجوز له التساهل فيه، ولكنه يبقى أبا، جعله الله -عز وجل- سببا لوجودك في الدنيا، وأوجب عليك بره وطاعته في المعروف وإن أساء وظلم، بل ولو كان كافرا مجتهدا في سبيل حملك على الكفر، قال تعالى: ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير * وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلي ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون {لقمان:14-15}. وقد عقد البخاري في كتابه الأدب المفرد بابا أسماه: باب بر والديه وإن ظلما، وأورد تحته أثرا عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: ما من مسلم له والدان مسلمان، يصبح إليهما محتسبا، إلا فتح له الله بابين -يعني: من الجنة- وإن كان واحدا فواحد، وإن أغضب أحدهما لم يرض الله عنه حتى يرضى عنه, قيل: وإن ظلماه؟ قال: وإن ظلماه.
فتجب عليك إذا صلته بما أمكن من الزيارة، والاتصال، والإهداء، وتفقد الأحوال، والرعاية -وخاصة عند الكبر- والدعاء له بخير.

ويجب عليك الحذر من أن يصدر عنك تجاهه أي إساءة -وإن قلت- لئلا تقع في العقوق، وفي عمدة القاري شرح صحيح البخاري: وقال الشيخ تقي الدين السبكي -رحمه الله-: إن ضابط العقوق إيذاؤهما بأي نوع كان من أنواع الأذى -قل أو كثر، نهيا عنه، أو لم ينهيا- أو يخالفهما فيما يأمران، أو ينهيان، بشرط انتفاء المعصية في الكل. اهـ. ونحسب أنك أعقل من أن تقع في شيء من ذلك.

وليس من حق أمك أن تمنعك من صلة أبيك؛ لأن في هذا إعانة على العقوق والقطيعة، فلو منعتك لكانت آثمة، ولكنها لم تمنعك -والحمد لله-.

فالحاصل: أنه يجب عليك صلة أبيك ولو لم ترغب أمك في ذلك، والأولى أن تصله من غير أن تعلم أمك لئلا تحزنها، وفي ذلك جمع بين المصلحتين؛ نقل القرافي في كتابه "الفروق": أن رجلا قال للإمام مالك -رحمه الله تعالى-: إن والدي في بلد السودان وقد كتب إلي أن أقدم عليه، وأمي تمنعني من ذلك، فقال له الإمام مالك: أطع أباك ولا تعص أمك. اهـ.

جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية في تفسير هذه العبارة قولهم: يعني أنه يبالغ في رضى أمه بسفره لوالده، ولو بأخذها معه، ليتمكن من طاعة أبيه وعدم عصيان أمه. اهـ. أي: التوفيق بينهما في ذلك بحيث يرضيهما معا.

ومجرد عدم شعورك بشيء من الحب تجاه أبيك أو بغضك القلبي لتصرفاته لا مؤاخذة عليك فيه؛ إذ لا كسب لك فيه؛ روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم يتكلموا أو يعملوا به. فلا مؤاخذة إذا إلا بالتصرفات القولية أو الفعلية.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المكتبة