واجب الشخص تجاه أهله الواقعين في المنكرات، وهل تجوز مفارقتهم؟

0 229

السؤال

هجر العائلة جميعها بشكل نهائي لأسباب قوية، كما سأذكره مختصرا، وأرجو سعة الصدر، فأنا قد حاولت أن أختصر قدر المستطاع، رغم أن الكلام قد لا يصف ما أعانيه نفسيا بشكل واف.
تبدأ معاناتي مع عائلتي منذ القدم، فهم قوم لا يصلون، ولا يتقون الله في أنفسهم، ولا مانع لديهم في عيش الحياة كما يعيشها باقي الناس -كما يدعون-، ولا يرون في الحق غير ما يريدون، ويحبون الشهوات، ويزحفون من أجل الملذات؛ منهم من يشرب الخمر، ويتعاطى المخدرات، ومنهم من لا مانع لديه من أخذ شيء ليس من حقه، وقد اضطرتني الظروف الحسنة نوعا ما إلى الابتعاد عنهم فترة؛ بسبب تأدية الخدمة العسكرية، ورأيت في هذه الفترة تقربا إلى المولى -عز وجل-، وإن كان متقطعا بعض الشيء، ولكني أظن أن سبب الانقطاع كان الفترة التي أعود فيها إلى البيت في إجازة، فكنت بمجرد أن أدخل المنزل أحس بشيء سيئ، وكأني أمر بجوار إبليس وشياطينه بمجرد دخولي من باب المنزل، وحاولت كثيرا أن أبتعد عن التوتر، ولكني من المفترض أني أعيش في بيت عائلة.
بعد تأديتي للخدمة قررت أن أصحح حياتي؛ بأن أكمل تعليمي، وأن أحاول أن أستقر في حياتي بعيدا عن هذا البيت، وهذه العائلة التي يقاطعها باقي أفراد العائلة الكبرى منذ سنين؛ بسبب المشاكل والفضائح الدائمة، فأوصيت صديقا لي بالبحث عن شقة صغيرة أسكن فيها بعيدا عنهم، ولكن حدث شيء مغاير لما كنت أرتبه لحياتي؛ إذ فجأة مرض والدي مرضا شديدا – قد كان يعاني في الأساس من فيروس الكبد الوبائي سي- فقررت أن أؤجل كل هذا إلى أن يروق الحال، ويستفيق أبي من مرضه على خير من الله، ولكن كان أجله قد حان، ولا راد لقضاء الله، ووافته المنية، وترك لي حينها الأم، وأخواتي البنات الاثنتين، علما أن لي أخوين اثنين من الذكور من والدة أخرى، ويقطنون في مكان مختلف، فأصبحت المسؤولية على عاتقي مرة واحدة، فأنا لم أكن قد تعودت على هذا من قبل، فكلامي من قبل كان من باب النصح والإرشاد فقط، ليس من باب تحمل المسؤولية كاملة.
سأحاول أن أختصر ما قلته سابقا: عائلتي هذه دائمة المشاكل بسبب فساد الخلق فيها، والسباب الدائم ليلا ونهارا، سرا وجهارا، وأسرتي التي أنا مسؤول عنها -أي: الأم، وأختي المتبقية؛ والأخرى قد تزوجت، ولكنها أيضا توافقهم الرأي- لا مانع لديهم أن يعيشوا في وسط هذا الجحيم المستعر، وأنا قد بلغت من العمر 28 عاما، وقد رأيت شتى أنواع الفساد في هذا البيت منذ الصغر، وقد اشتد الأمر قبيل وفاة والدي بسبب مشكلة حدثت مع أحد أبناء من تقطن معنا من العائلة، ولساني ويدي لا يطاوعانني أن أكتب عنها شيئا - وإن كان اسما - لمجرد شعوري بضياع البقية الباقية في نفسي من الكرامة، وبالطبع بسبب الكراهية اللا متناهية التي نشأت بيني وبينها وأولادها، فأنا عندما أراهم كأني أرى إبليس أمامي، فلا أطيق مجرد رؤيتهم، فهم غير أسوياء خلقيا، أو نفسيا -كحال أمهم وأبيهم، ومن شابه أباه فما ظلم-.
وسامحني أخي الفاضل القارئ لرسالتي إن كان كلامي حادا بعض الشيء في نقلي للجزئية الأخيرة، فصدقني لو رأيت ما رأيت منهم لعذرتني.
أتمنى أن تنصحوني؛ فقد مللت، وتعبت من كثرة المشاكل، وعلى مدار آخر 6 سنوات بالتحديد ضقت ذرعا، وفاض بي الكيل، وتعبت حقا، سواء من كثرة المشاكل التي وصلت للقضاء أم من صمت أسرتي ورضاهم على ما يحدث، وأنا لم أتحمل هذه السنين إلا من أجلهم، وبالأخص بعد وفاة والدي، وهم لا يتحملون مفارقة هذا الجحيم من أجلي، فما الحكم السليم الذي يراعي حقي الذي من الواضح أنه أهدر كثيرا بسبب أسرتي -وهذا ليس بجديد-؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

 فأول ما ننصحك به الصبر، فأنت في بلاء، والصبر من أفضل ما يتسلى به عند حلول البلاء، وراجع في فضل الصبر الفتوى رقم: 18103

واعلم أن البلاء قد يحمل في طياته رخاء، وقد يكون في المحنة منحة، وفي النقمة نعمة، فتفاءل وأمل في ربك خيرا.

ثانيا: نوصيك بالدعاء، والالتجاء إلى رب الأرض والسماء، فهو مفرج الكروب، وكاشف البلاء، مجيب دعوة المضطر، وكاشف الضر، وهنالك أدعية تناسب المقام الذي أنت فيه؛ راجعها في الفتوى رقم: 70670.

واحرص على الإكثار من الدعاء لأهلك، فمهما وصلوا في السوء فإن الله -عز وجل- قادر أن يصلحهم في لحظة، فبيده قلوب العباد، قال تعالى: فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ... {الأنعام:125}، وروى البخاري عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم: "لا ومقلب القلوب".

ثالثا: اعقد العزم على محاولة إصلاحهم، وهدايتهم إلى صراط الله المستقيم، فانصحهم بالحسنى، ومن منطلق الشفقة عليهم، واحرص على إسماعهم مواعظ، ولو من طريق غير مباشر.

وإذا أمكنك أن تستعين ببعض أصحاب الأسلوب المؤثر من الدعاة في بلدك، فافعل، قد تجد منهم نفورا في بدء الأمر، ثم استجابة وقبولا، ولا تيأس أبدا؛ فقد دخل عمر بن الخطاب الإسلام وقد كان ميؤوسا من إسلامه، حتى قال بعضهم -كما في قصة إسلامه-: والله لا يسلم حتى يسلم حمار الخطاب. وانظر قصته في الفتوى رقم: 272275.

واعلم أن من أعظم ما يعينك على الإصلاح أن تكون قدوة صالحة لهم، يرون منك الدين، والخلق، واللين في غير ما ضعف، فالقدوة مهمة للإصلاح؛ ولذا جعل الله الأنبياء قدوة لنبينا، وجعله قدوة لنا -عليه الصلاة والسلام-، قال عز وجل: أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده{الأنعام:90}، وقال: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا {الأحزاب:21}.

رابعا: عليك بالجد، والحزم في غير ما عنف لمنع الفساد من البيت، قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون {التحريم:6}.

وننبهك هنا إلى أن الإنكار على الوالدين، أو أحدهما ليس كالإنكار على غيرهما، وراجع الفتوى رقم: 134356.

خامسا: إذا كان وجودك معهم في البيت تتضرر بسببه في دينك، فلا حرج عليك في ترك البيت، والانتقال للسكن بعيدا عن أهلك، ولو أمرت أمك بالبقاء في البيت؛ فطاعة الوالدين تجب في المعروف، وليس من المعروف طاعتهما فيما فيه ضرر، وتراجع الفتوى رقم: 76303.

ولكن إن أمكنك البقاء معهم، والاجتهاد في المحافظة على دينك من خلال حضور مجالس العلم، والذكر، وصحبة أهل الخير، فاصبر عليهم؛ عسى أن يكون بقاؤك معهم سببا في إصلاحهم، أو التقليل من الفساد.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة