الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله تعالى أن يوفقك لما يحب ويرضى، وأن يجنبك مضلات الفتن، ما ظهر منها وما بطن، وأما لجواب سؤالك فنقول: إن عدم العلم ليس علما بالعدم، فإذا كان بعض الناس لا يعلمون حجة قاطعة دامغة، وآية ساطعة جامعة، على كون الإسلام هو الحق المبين، فهناك آخرون عندهم حجج متكاثرة، وأدلة متواترة على هذه الحقيقة الظاهرة، ولا يخفى أن ذلك يرجع إلى اختلاف الناس في علومهم ومداركهم ومشاربهم وغاياتهم، ولذلك نقول: إن ظهور الحجة ووضوحها أمر نسبي، وكذلك قبول الشبهات والتأثر بها، يختلف الناس في ذلك اختلافا بينا، حتى وجد فيهم من ينكر الحق الجلي الواضح، ومن يبني فلسفته على الشك، ومن يعتقد نسبية الحقيقة ذاتها، بل إن منهم من ينكر الواقع المحسوس المشاهد ويجادل فيه، كالسفسطائيين، وراجع في ذلك الفتاوى التالية أرقامها: 278767، 45626، 182599.
والمقصود أن وجود الخلاف لا يعني غياب الحجة والبيان، وظهور الجدال لا يعني ضعف الدليل والبرهان، فحسبنا إثبات الحق واعتقاده وإقامة برهانه، ولا يضرنا بعد ذلك من ينكره ويجادل فيه، فإن هذا لن ينقطع، ولا تزال سنة المدافعة بين الحق والباطل قائمة ما قامت الحياة على الأرض، ليميز الله الخبيث من الطيب، قال تعالى عن وقعة بدر بين المسلمين والكفار: ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة وإن الله لسميع عليم {الأنفال: 42}.
قال السعدي: ولكن ـ الله جمعكم على هذه الحال: ليقضي الله أمرا كان مفعولا ـ أي: مقدرا في الأزل، لا بد من وقوعه: ليهلك من هلك عن بينة ـ أي: ليكون حجة وبينة للمعاند، فيختار الكفر على بصيرة وجزم ببطلانه، فلا يبقى له عذر عند الله: ويحيا من حي عن بينة ـ أي: يزداد المؤمن بصيرة ويقينا، بما أرى الله الطائفتين من أدلة الحق وبراهينه، ما هو تذكرة لأولي الألباب. اهـ.
والمقصود أن تصور زوال الخلاف بمجرد وضوح الحجة وصحة البرهان: ليس بصحيح، بل الخلاف قائم في الأساس، لأن من الناس من يعرف الحق ثم يرده ويخاصمه، وتظهر له دلائله ثم يدفعها ويتعامى عنها، اتباعا لهواه، وإيثارا للدنيا على الآخرة ـ والعياذ بالله ـ ومثال ذلك ما قصه الله تعالى عن نبيه وخليله إبراهيم في محاجته مع النمرود، ومحاجته مع قومه، ففي الأول يقول الله تعالى: ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين {البقرة: 258}.
وفي الثاني يقول سبحانه: فاسألوهم إن كانوا ينطقون فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون ثم نكسوا على رءوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين {الأنبياء: 63 ـ 68}.
فالخلاف لا يزال قائما ما وجد للباطل أتباع يؤثرونه على الحق، ولا يريدون عنه بديلا، فأمثال هؤلاء كيف يهديهم الله تعالى ويشرح للحق صدورهم؟! قال تعالى: كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين {آل عمران: 86}.
وقال سبحانه: سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين {الأعراف: 146}.
والخلاصة أن اختلاف أهل الحق وأهل الباطل لن يزول، سواء أقامت الحجة أم لم تقم، قال تعالى: ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين، إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين {هود: 118ـ 119}.
قال السعدي في تفسيره: يخبر تعالى أنه لو شاء لجعل الناس كلهم أمة واحدة على الدين الإسلامي، فإن مشيئته غير قاصرة، ولا يمتنع عليه شيء، ولكنه اقتضت حكمته، أن لا يزالوا مختلفين، مخالفين للصراط المستقيم، متبعين للسبل الموصلة إلى النار، كل يرى الحق، فيما قاله، والضلال في قول غيره: إلا من رحم ربك ـ فهداهم إلى العلم بالحق والعمل به، والاتفاق عليه، فهؤلاء سبقت لهم، سابقة السعادة، وتداركتهم العناية الربانية والتوفيق الإلهي، وأما من عداهم، فهم مخذولون موكولون إلى أنفسهم، وقوله: ولذلك خلقهم ـ أي: اقتضت حكمته، أنه خلقهم، ليكون منهم السعداء والأشقياء والمتفقون والمختلفون، والفريق الذين هدى الله، والفريق الذين حقت عليهم الضلالة، ليتبين للعباد، عدله وحكمته وليظهر ما كمن في الطباع البشرية من الخير والشر، ولتقوم سوق الجهاد والعبادات التي لا تتم ولا تستقيم إلا بالامتحان والابتلاء. اهـ.
ويبقى أن الحق يدور مع بعض الناس، ويتنكب عنه آخرون، مع قيام الحجة، ووضوح الدليل، وصحة البرهان، فيما أنزل الله به كتبه، وأرسل به رسله، قال تعالى: رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما {النساء: 165}.
وقال عز وجل: يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا {النساء: 174}.
وقال تبارك وتعالى: قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين {الأنعام: 149}.
قال ابن عطية في المحرر الوجيز: يريد البالغة غاية المقصد في الأمر الذي يحتج فيه. اهـ.
وقال الزجاج في معاني القرآن وإعرابه: فحجته البالغة تبيينه أنه الواحد وإرساله الأنبياء بالحجج التي يعجز عنها المخلوقون. اهـ.
وقال السعدي في تفسيره: الحجة لله البالغة، التي لم تبق لأحد عذرا، التي اتفقت عليها الأنبياء والمرسلون، والكتب الإلهية، والآثار النبوية، والعقول الصحيحة، والفطر المستقيمة، والأخلاق القويمة، فعلم بذلك أن كل ما خالف هذه الأدلة القاطعة باطل، لأن نقيض الحق، لا يكون إلا باطلا. اهـ.
وقال المراغي في تفسيره: أي قل أيها الرسول لهؤلاء الجاهلين بعد تعجيزك إياهم عن أن يأتوا بأدنى دليل أو قول يرقى إلى أضعف درجة من العلم: إن لم يكن عندكم علم في أمر دينكم، فإن لله وحده أعلى درجات العلم وله الحجة البالغة على ما أراد من إحقاق الحق وإزهاق الباطل بما بينه في هذه السورة وغيرها من الآيات البينات على أصول العقائد وقواعد التشريع، الموافقة للعقول الحكيمة والفطر السليمة، وسننه في الاجتماع البشري، ولكن لا يهتدي بهذه الآيات إلا المستعد للهداية، المحب للحق، الحريص على طلبه، الذي يستمع القول فيتبع أحسنه، دون من أعرض عن النظر فيها استكبارا عنها وحسدا للمبلغ الذي جاء بها، وجمودا على تقليد الآباء واتباع الرؤساء. اهـ.
وأخيرا ندعو الأخ السائل أن يتدبر هذه الآيات المباركات، ويرجع إلى تفسير أهل العلم لها، كنموذج لحجج القرآن الساطعة، وبراهينه القاطعة، قال تعالى: قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون كذلك حقت كلمت ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده فأنى تؤفكون قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق قل الله يهدي للحق أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئا إن الله عليم بما يفعلون وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به وربك أعلم بالمفسدين وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون {يونس: 31 ـ44}.
ثم إننا نعتذر عن التفصيل في جواب بقية الأسئلة، لأن فيما سبق إجمال للجواب عن السؤال الثاني والخامس، وأما السؤال الثالث: فراجع في جوابه الفتويين رقم: 321538، ورقم: 296932.
وأما السؤال الرابع: فراجع في جوابه الفتاوى التالية أرقامها: 74500، 54711، 48913.
ثم إننا ننبه الأخ السائل على أن نظام العمل في موقعنا في حال ورود أسئلة متعددة في فتوى واحدة: ألا نجيب إلا على السؤال الأول، ونطلب من السائل أن يعيد بقية أسئلته كل واحد منها في فتوى مستقلة.
والله أعلم.