السؤال
هل الاستغناء عن الله طرفة عين، يخرج من الملة؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فالناس جميعا فقراء إلى الله تعالى في تدبيرهم، وقيام أمورهم، وإصلاح شؤونهم، لا يستغنون عنه طرفة عين، ولا أقل من ذلك، قال تعالى: يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد {فاطر:15}. وقد جعل الله استغناء العبد عنه موجبا لهلاكه، كما قال تعالى: وأما من بخل واستغنى * وكذب بالحسنى * فسنيسره للعسرى {الليل:8-10}. وأخبر أن رؤيته غنى نفسه، سبب طغيانه، فقال: كلا إن الإنسان ليطغى* أن رآه استغنى {العلق: 6-7}.
قال ابن القيم رحمه الله: قال تعالى: {كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى} [العلق: 6-7] ، ولم يقل: إن استغنى، بل جعل الطغيان ناشئا عن رؤية غنى نفسه، ولم يذكر هذه الرؤية في سورة الليل، بل قال: {وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى} [الليل: 8-10] ، وهذا- والله أعلم- لأنه ذكر موجب طغيانه، وهو رؤية غنى نفسه، وذكر في سورة الليل موجب هلاكه، وعدم تيسيره لليسرى، وهو استغناؤه عن ربه بترك طاعته وعبوديته، فإنه لو افتقر إليه، لتقرب إليه بما أمره من طاعته، فعل المملوك الذي لا غنى له عن مولاه طرفة عين، ولا يجد بدا من امتثال أوامره، ولذلك ذكر معه بخله، وهو تركه إعطاء ما وجب عليه من الأقوال، والأعمال، وأداء المال، وجمع إلى ذلك تكذيبه بالحسنى، وهي التي وعد بها أهل الإحسان بقوله: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} [يونس: 26]. انتهى.
فإذا زعم امرؤ أنه مستغن عن الله، بمعنى أن الله لا يدبره، وأنه لا حاجة به إلى الله خالقا ورازقا، فهو من أخبث الناس وأكفرهم، وإذا زعم أنه مستغن عن الله، بمعنى أنه لا حاجة به إلى عبادته والتقرب إليه، والذل له، والانكسار له سبحانه، فلم يفتقر إلى الله إلها معبودا، ولا رأى لله عليه حقا يجب عليه القيام به حتى يموت، فإنه خارج من جملة المسلمين، بيد أن هذا لا يتصور صدوره من مسلم يعرف ربه، ويؤمن بشرعه وقدره، وليعلم أن الغنى وصف ذاتي للرب تعالى، فلا يكون الرب إلا غنيا، كما أن الفقر صفة ذاتية للعبد، فلا يكون العبد إلا فقيرا.
قال شيخ الإسلام -رحمه الله- في العقود الدرية:
والفقر لي وصف ذات لازم أبدا كما الغنى أبدا وصف له ذاتي
وهذه الحال حال الخلق أجمعهم وكلهم عنده عبد له آتي
فمن بغى مطلبا من دون خالقه فهو الجهول الظلوم المشرك العاتي. انتهى.
واعلم أن الشيطان قد يوسوس لك أنك استغنيت عن الله، وخرجت من الإسلام ونحو ذلك، وهذا كله من تلبيسه وإيهامه، وتغريره بك، فإن أحدا لا يتصور أن يستغني عن الله تعالى، فضلا عن مسلم عالم بالله وشرعه، فإن كان بك شيء من الوسوسة في هذا الباب، فاطرحه، ولا تبال به، ولا تعره اهتماما.
والله أعلم.