السؤال
ما قولكم في الأشياء الخارقة للعادة التي تجري للأموات من أهل الصلاح، كأن يشع وجهه نورا ينعكس على ما فوقه كالمصباح، وأن تفوح منه رائحة زكية من غير أن يطيب، وما أشبه هذه؟ وهل هذه من الشيطان لتحسين الاعتقاد بالميت رجاء عبادته؟ أم يجوز أن تكون كرامة من الله؟ فبعض الناس إذا روي له مثل هذا يقول إن من هو أفضل من هذا الميت لم يحصل له هذا كأبي بكر وعمر، ويقول أيضا إن الكرامات لتثبيت من تحصل له وليست لهداية غيره، فما قولكم؟.
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فكرامات الأولياء منها ما يكون لتثبيت صاحبها، ومنها أيضا ما يكون إظهارا لفضله وهداية لغيره، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان: مما ينبغي أن يعرف أن الكرامات قد تكون بحسب حاجة الرجل فإذا احتاج إليها الضعيف الإيمان أو المحتاج، أتاه منها ما يقوي إيمانه ويسد حاجته، ويكون من هو أكمل ولاية لله منه مستغنيا عن ذلك، فلا يأتيه مثل ذلك، لعلو درجته وغناه عنها، لا لنقص ولايته، ولهذا كانت هذه الأمور في التابعين أكثر منها في الصحابة، بخلاف من يجري على يديه الخوارق لهدي الخلق ولحاجتهم، فهؤلاء أعظم درجة، وهذا بخلاف الأحوال الشيطانية مثل حال عبد الله بن صياد الذي ظهر في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وكان قد ظن بعض الصحابة أنه الدجال... اهـ.
وقال في كتابه: اقتضاء الصراط المستقيم ـ وهو يفند ما ورد في استحباب الدعاء عند القبر: ولا يدخل في هذا الباب: ما يروى من أن قوما سمعوا رد السلام من قبر النبي صلى الله عليه وسلم، أو قبور غيره من الصالحين، وأن سعيد بن المسيب كان يسمع الأذان من القبر ليالي الحرة، ونحو ذلك، فهذا كله حق ليس مما نحن فيه، والأمر أجل من ذلك وأعظم، وكذلك أيضا ما يروى: أن رجلا جاء إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فشكا إليه الجدب عام الرمادة فرآه وهو يأمره أن يأتي عمر، فيأمره أن يخرج يستسقي بالناس، فإن هذا ليس من هذا الباب، ومثل هذا يقع كثيرا لمن هو دون النبي صلى الله عليه وسلم، وأعرف من هذا وقائع.... فهذا القدر إذا وقع يكون كرامة لصاحب القبر، أما أن يدل على حسن حال السائل، فلا فرق بين هذا وهذا، فإن الخلق لم ينهوا عن الصلاة عند القبور واتخاذها مساجد استهانة بأهلها بل لما يخاف عليهم من الفتنة، وإنما تكون الفتنة إذا انعقد سببها، فلولا أنه قد يحصل عند القبور ما يخاف الافتتان به لما نهي الناس عن ذلك، وكذلك ما يذكر من الكرامات وخوارق العادات، التي توجد عند قبور الأنبياء والصالحين، مثل نزول الأنوار والملائكة عندها، وتوقي الشياطين والبهائم لها، واندفاع النار عنها وعمن جاورها وشفاعة بعضهم في جيرانه من الموتى، واستحباب الاندفان عند بعضهم، وحصول الأنس والسكينة عندها، ونزول العذاب بمن استهانها، فجنس هذا حق، ليس مما نحن فيه، وما في قبور الأنبياء والصالحين من كرامة الله ورحمته، وما لها عند الله من الحرمة والكرامة فوق ما يتوهمه أكثر الخلق، لكن ليس هذا موضع تفصيل ذلك، وكل هذا لا يقتضي استحباب الصلاة، أو قصد الدعاء أو النسك عندها، لما في قصد العبادات عندها من المفاسد التي علمها الشارع كما تقدم، فذكرت هذه الأمور لأنها مما يتوهم معارضته لما قدمناه، وليس كذلك. اهـ.
ومن الكرامات المشهورة التي تحصل للموتى ما يكون للشهداء، ومن ذلك ما رواه مالك في الموطأ عن عبد الرحمن بن أبي صعصعة أنه بلغه: أن عمرو بن الجموح وعبد الله بن عمرو الأنصاريين ثم السلميين، كانا قد حفر السيل قبرهما وكان قبرهما مما يلي السيل، وكانا في قبر واحد، وهما ممن استشهد يوم أحد، فحفر عنهما ليغيرا من مكانهما، فوجدا لم يتغيرا كأنهما ماتا بالأمس، وكان أحدهما قد جرح فوضع يده على جرحه فدفن وهو كذلك، فأميطت يده عن جرحه ثم أرسلت فرجعت كما كانت، وكان بين أحد وبين يوم حفر عنهما ست وأربعون سنة.
وهذا رواه ابن سعد في الطبقات من وجه آخر، وعنده: وعبد الله قد أصابه جرح في وجهه، فيده على جرحه، فأميطت يده عن جرحه فانبعث الدم، فردت يده إلى مكانها فسكن الدم، قال جابر: فرأيت أبي في حفرته كأنه نائم وما تغير من حاله قليل ولا كثير، فقيل له: فرأيت أكفانه؟ قال: إنما كفن في نمرة، خمر بها وجهه وجعل على رجليه الحرمل، فوجدنا النمرة كما هي، والحرمل على رجليه على هيئته، وبين ذلك ست وأربعون سنة، فشاورهم جابر في أن يطيب بمسك فأبى ذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: لا تحدثوا شيئا، وحولا من ذلك المكان إلى مكان آخر، وذلك أن القناة كانت تمر عليهما، وأخرجوا رطابا يتثنون. اهـ.
وهذا يحصل أيضا لغير الشهداء، ومن ذلك ما رواه ابن أبي الدنيا في المحتضرين عن فضالة بن دينار، قال: حضرت محمد بن واسع وقد سجي للموت، فجعل يقول: مرحبا بملائكة ربي، ولا حول ولا قوة إلا بالله ـ قال: وشممت رائحة طيبة لم أشم مثلها، قال: ثم شخص ببصره فمات. اهـ.
وروى اللالكائي والخلال كلاهما في كرامات الأولياء عن مالك بن دينار قال: رأيت قبر عبد الله بن غالب فأخذت من ترابه فإذا هو مسك، قال: وفتن الناس به فبعث إلى قبره فسوي. اهـ.
ونحو هذا مشهور عن الإمام البخاري ـ رحمه الله ـ أنه لما دفن فاح من تراب قبره رائحة غالية أطيب من المسك، فدام ذلك أياما، ثم علت سواري بيض في السماء مستطيلة بحذاء قبره، فجعل الناس يختلفون ويتعجبون، وأما التراب فإنهم كانوا يرفعون عن القبر حتى ظهر القبر. اهـ. من سير أعلام النبلاء.
وقال الحافظ ابن عساكر: كان الحميدي أوصى إلى الأجل مظفر بن رئيس الرؤساء أن يدفنه عند بشر، فخالف، فرآه بعد مدة في النوم يعاتبه، فنقله في صفر، سنة إحدى وتسعين، وكان كفنه جديدا، وبدنه طريا، يفوح منه رائحة الطيب. اهـ.
والله أعلم.