السؤال
حسب علمي فإن السنة غير المتواترة ظنية الثبوت، فكيف يمكن العمل بشيء، ونعتبره من الدين، وهو ظني الثبوت، وليس قطعي الثبوت؟ وهل الحديث الخاص بعد اجتماع الأمة على ضلالة متواتر؟
حسب علمي فإن السنة غير المتواترة ظنية الثبوت، فكيف يمكن العمل بشيء، ونعتبره من الدين، وهو ظني الثبوت، وليس قطعي الثبوت؟ وهل الحديث الخاص بعد اجتماع الأمة على ضلالة متواتر؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فبداية ننبه الأخ السائل على أن التفريق بين المتواتر والآحاد لا يتفق في حده على ضابط يفصل بينهما، فلا يمكن القطع بوجود حد فاصل بين المتواتر والآحاد، وبذلك يصبح هذا التفريق نفسه ظنيا في كثير من الأحوال، ولذلك ينبه أهل العلم على أن حصول العلم والقطع واليقين: أمر نسبي، يختلف من شخص لآخر، ومن حال لآخر!! ثم إفادة خبر الآحاد هي الأخرى لا يتفق فيها على شيء، فمن أهل العلم من يرى أن خبر الواحد المستجمع لشروط الصحة يفيد العلم، ومنهم من يرى ذلك بشرط الاحتفاف بالقرائن، ومنهم من يرى أنه يفيد الظن الغالب الذي يوجب العمل به، وفي هذه الأقوال تنحصر مذاهب أهل العلم المعتبرين، والأئمة المتبوعين! وأما من ذهب إلى أنه لا يفيد علما، ولا يوجب عملا! فأفراد من أهل البدع لا يعتد بهم! وحسبك أن تعلم عاقبة هذا المذهب المنحرف، فإن ذلك لا يؤدي إلى انحلال أمر الدين فحسب، بل يؤدي إلى فساد أحوال الناس وتضييع معايشهم في الدنيا كذلك! فإن مصالح العباد قائمة على العمل بالظنون الراجحة، فإهمالها وإلغاء دلالتها يؤدي ـ بلا ريب ـ إلى تعطل مصالحهم! قال العز بن عبد السلام في قواعد الأحكام في مصالح الأنام: لما كان الغالب صدق الظنون بنيت عليها مصالح الدنيا والآخرة، لأن كذبها نادر ولا يجوز تعطيل مصالح صدقها الغالب خوفا من وقوع مفاسد كذبها النادر، ولا شك أن مصالح الدنيا والآخرة مبنية على الظنون كما ذكرناه... اهـ.
وقال الأستاذ الدكتور نور الدين عتر في بحثه: خبر الواحد الصحيح وأثره في العمل والعقيدة ـ قد ظهر لنا أن الحديث الصحيح ـ وهو هنا الذي لم يبلغ درجة التواتر قد استوفى متنا وسندا ـ شروطا تتحرى نفي كل أسباب الخلل عنه، من أي جهة كانت، مما يلزم النفس السليمة بأن تقبله وتلتزم العمل به، وذلك هو ما ذهب إليه جماهير العلماء من السلف والخلف، ومنهم الأئمة الأربعة وسائر فقهاء الأمصار، لم يشذ عن ذلك إلا نفر قليل جدا من أهل العلم في العصور السالفة ممن لم يكونوا أئمة في علوم الدين، قال الإمام السرخسي رحمه الله : وقال بعض من لا يعتد بقوله: خبر الواحد لا يكون حجة في الدين أصلا ـ وهذا القائل الذي أشار إليه السرخسي هو الجبائي من المعتزلة، وبعض أهل الابتداع الخارجين على السنة، واستدلوا بأدلة عديدة تدور كلها حول نقطة واحدة هي أن كل راو من رواة الخبر الآحادي غير معصوم عن الكذب، ولا عن الخطأ فيحتمل أن يكون هناك كذب في الحديث أو خطأ، فلا يجوز أن يكون مصدرا في الشرع، وأوردوا بناء على ذلك استدلالات من القرآن الكريم يشدون بها مذهبهم... أما ما ذكروه من عدم عصمة الراوي عن الكذب أو الخطأ فهو توهم ضعيف، لا يؤبه له بإزاء ما توفر من شروط العدالة والضبط والاتصال ثم تحري السلامة من الشذوذ والإعلال، ولو فتح باب رد الأدلة والقضايا الصحيحة بالأوهام على هذا النحو لما سلم للإنسان أمر قط في شأن من شؤون حياته، والنصوص التي أوردوها قد وضعوها في غير موضعها الصحيح، وصرفوها عن المعاني التي وردت لأجلها، وجملة ذلك أن الله تعالى نهى عباده المؤمنين أن يتبعوا ما لم يثبت عندهم بدليل مقبول في شريعة الله من نص شرعي أو برهان عقلي صحيح، وهذا معنى قوله: ولا تقف ما ليس لك به علم {الإسراء: 36} وقوله: ولا تقولوا على الله إلا الحق {النساء: 171} ونحوهما من النصوص التي سبق أن ذكرت، ونعى القرآن على الكافرين تقليد آبائهم من غير برهان من الله، لكنهم اتبعوا الظنون أي الأوهام التي قامت في نفوسهم وتمكنت بعامل التقليد، فقال: إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا {النجم: 28} وقد توفرت الأدلة اليقينية القطعية على وجوب العمل بخبر الواحد الصحيح، وهي أدلة من الكتاب والسنة والإجماع. انتهى.
ثم أورد هذه الأدلة المتضافرة من الكتاب والسنة والإجماع على وجوب العمل بخبر الواحد الصحيح، ثم قال تحت عنوان دلالة العقل على حجية الواحد: وحقيقة ذلك أن الاحتجاج بخبر الواحد الصحيح أمر بدهي تقضي به الفطرة، لا يحتاج إلى كثير من الاستدلالات والبراهين، فما من إنسان إلا وهو يعول في إبرام شؤونه في العمل أو التجارة أو الدراسة أو غيرها على ما يخبره به واحد موثوق من الناس، حيث يقع في نفسه صدق المخبر، ويغلب على احتمال الغلط أو احتمال الكذب، بل أن الشؤون الكبرى في مصير الأمم يعتمد فيها على أخبار الآحاد المعتمدين، كالسفراء، أو المبعوثين من قبل الحكومات، فالتوقف عن قبول خبر الواحد يفضي إلى تعطيل الدين والدنيا. اهـ.
وقد سبق لنا بيان طرف من هذه الأدلة، وبيان بعض جوانب المسألة، والجواب عن بعض الشبهات المتعلقة بها، فراجع ـ إن أردت الوقوف على ذلك ـ الفتاوى التالية أرقامها: 6906، 8406، 28926، 199637، 61928.
والله أعلم.