الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فقد فرق أهل العلم بين الإجارة والجعالة بعدة فروق، أهمها ثلاثة: لزوم العقد وعدم لزومه، ثم معلومية العمل وجهالته، سواء من حيث المدة، أم من حيث المقدار، ثم تعيين العامل وعدم تعيينه، قال ابن قدامة في المغني: الجعالة تساوي الإجارة في اعتبار العلم بالعوض ... ويفارق -يعني الجعل- الإجارة في أنه عقد جائز وهي لازمة، وأنه لا يعتبر العلم بالمدة، ولا بمقدار العمل، ولا يعتبر وقوع العقد مع واحد معين. اهـ.
وقال الزركشي في المنثور: الجعالة كالإجارة إلا في مسألتين: إحداهما: تعيين العامل. وثانيهما: العلم بمقدار العمل. اهـ.
وقال ابن تيمية في رسالة القياس، وتبعه ابن القيم في إعلام الموقعين: العمل الذي يقصد به المال ثلاثة أنواع:
- أحدها: أن يكون العمل مقصودا، معلوما، مقدورا على تسليمه. فهذه الإجارة اللازمة.
- والثاني: أن يكون العمل مقصودا، لكنه مجهول أو غرر، فهذه الجعالة، وهي: عقد جائز ليس بلازم، فإذا قال: من رد عبدي الآبق فله مائة. فقد يقدر على رده وقد لا يقدر، وقد يرده من مكان قريب، وقد يرده من مكان بعيد؛ فلهذا لم تكن لازمة، لكن هي جائزة، فإن عمل هذا العمل استحق الجعل، وإلا فلا، ويجوز أن يكون الجعل فيها إذا حصل بالعمل جزءا شائعا؛ ومجهولا جهالة لا تمنع التسليم ..
- وأما النوع الثالث: فهو ما لا يقصد فيه العمل؛ بل المقصود المال، وهو المضاربة؛ فإن رب المال ليس له قصد في نفس عمل العامل، كما للجاعل والمستأجر قصد في عمل العامل؛ ولهذا لو عمل ما عمل ولم يربح شيئا، لم يكن له شيء. اهـ.
وبالنسبة لخصوص المثال الذي ذكره السائل -وهو بناء حائط- فالظاهر والغالب أن بناءه فيه منفعة لمريد بنائه، وأنه لا يأمر ببنائه إلا في أرض يملكها! وهذه المنفعة يتحقق جزء منها بالشروع في البناء وإن لم يتم، وهذا يعني أن طالب البناء سينتفع بأي قدر من العمل، وأما الباني فإنه سيكون كذلك إن كان أجيرا؛ لأنه يستحق قسطا من الأجرة بقدر عمله. وأما إن كان مجاعلا، فإنه لن يستحق شيئا إلا بإتمام البناء، فيضيع عليه عمله إذا لم يتمه، في حين ينتفع المجاعل! ولهذا لم يصحح بعض أهل العلم المجاعلة على مثل ذلك، واشترطوا فيها ألا يكون للجاعل فيها منفعة إلا بتمام العمل، قال الرجراجي في مناهج التحصيل: ماهيته -يعني الجعل- أن يجعل الرجل للرجل جعلا على عمل يعمله له، إن أكمل العمل كان له جعله، وإن لم يكمله لم يكن له شيء، وذهب عناؤه باطلا، فهذا قد أجازه مالك وأصحابه فيما لا منفعة فيه للجاعل إلا بتمام العمل. اهـ.
وقال النفراوي في الفواكه الدواني: العمل المجاعل عليه، بعضه تصح فيه الإجارة، وذلك كحفر بئر في أرض موات؛ لأنه إن عين فيها مقدار مخصوص من الأذرع كان إجارة، وإن عاقده على إخراج الماء كان جعلا. وبعضه مما لا تصح فيه الإجارة، وذلك كالمعاقدة على إحضار عبد آبق، أو بعير شارد ونحوهما من كل ما يجهل فيه العمل. وبعضه لا تصح فيه الجعالة وتتعين الإجارة، وذلك كالمعاقدة على عمل في أرض مملوكة للجاعل، كحفر بئر في أرض مملوكة له؛ لأنه على تقدير عدم تمام العمل يذهب عمله باطلا مع انتفاع الجاعل بعمله، فبين الإجارة والجعل العموم والخصوص الوجهي على التحقيق. اهـ.
وقال القفصي في لباب اللباب: ويشترط في المعقود عليه خمسة شروط ...
الثالث: أن يكون مما لا ينتفع به الجاعل إلا بتمامه، فلا يجوز الجعل على حفر بئر في أرض مملوكة للجاعل؛ لأن المجعول له إن يترك الحفر قبل التمام، انتفع به الجاعل، بخلاف ما يكون في أرض غير مملوكة. اهـ.
وقال ابن جزي في (القوانين الفقهية): المنفعة لا تحصل للجاعل إلا بتمام العمل، كرد الآبق والشارد، بخلاف الإجارة فإنه يحصل على المنفعة مقدار ما عمل؛ ولذلك إذا عمل الأجير في الإجارة بعض العمل، حصل له من الأجرة بحساب ما عمل، ولا يحصل له في الجعل شيء إلا بتمام العمل. اهـ.
وقال الماوردي الشافعي في الحاوي الكبير: من قال لغيره: إن جئتني بعبدي الآبق فلك دينار. فجاء به بعض المسافة، ثم هرب أو مات، لم يستحق من العرض شيئا، وإن عمل بعض العمل؛ لفوات المقصود وهو رد الآبق ... والأجرة مقسطة على الأعمال المقصودة .. كالإجارة على بناء حائط أو خياطة ثوب، بتقسيط الأجرة فيه على أجزائه، فلو مات الأجير بعد عمل بعضه استحق من الأجرة بقسطه .. ولا يشبه ذلك الجعالة؛ لأن عقد الإجارة لازم، فتقسطت الأجرة على الأعمال، والجعالة غير لازمة، فاستحق العوض فيها بعمل المقصود، ولم تتقسط على الأعمال. اهـ.
واستحقاق الأجير لقسط أجرته بقدر عمله وإن لم يتمه: هو قول الجمهور، وراجع في ذلك الفتويين: 150173، 224716.
ويبقى هنا التنبيه على أن بعض المعاملات والعقود يتردد النظر فيها بين الجعالة والإجارة، فهي محل خلاف ونظر.
قال ابن شاس في (عقد الجواهر الثمينة): فروع مترددة بين الجعل والإجارة:
الفرع الأول: مشارطة الطبيب على برء العليل.
الفرع الثاني: مشارطة المعلم على تعليم القرآن.
الفرع الثالث: المعاقدة على استخراج المياه من الآبار والعيون على صفة معلومة من شدة الأرض ولينها، وقرب الماء وبعده.
الفرع الرابع: المغارسة، وهي أن يعطي الرجل أرضه لمن يغرس فيها عددا من الأشجار، فإذا بلغت كذا وكذا سعفة، كانت الأرض والشجر بينهما. وكل هذه الفروع مختلف فيها.
وسبب الخلاف في جميعها ترددها بين العقدين المذكورين. وقد ألحق بها أيضا: كراء السفينة، وعليه الخلاف المتقدم في سقوط أجرتها إذا غرقت، على قول مالك، وابن القاسم، وهو إنزال له منزلة الجعل المحقق. وقول ابن نافع: له قدر ما بلغ من المسافة. تنزيل له منزلة الإجارة المحضة. وقول أصبغ في التفرقة، راجع إلى افتراق الحالين عنده، فأعطى أحدهما حكم الإجارة، وأعطى الآخر حكم الجعل. اهـ.
والله أعلم.