الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فقد جاء في الحديث عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن أول ما يحاسب الناس به يوم القيامة من أعمالهم الصلاة، قال: يقول ربنا عز وجل لملائكته، وهو أعلم: انظروا في صلاة عبدي أتمها أم نقصها، فإن كانت تامة، كتبت له تامة، وإن كان انتقص منها شيئا، قال: انظروا، هل لعبدي من تطوع؟ فإن كان له تطوع، قال: أتموا لعبدي فريضته من تطوعه، ثم تؤخذ الأعمال على ذاكم. أخرجه أحمد، وأبو دواد، والنسائي، وصححه الحاكم، والذهبي.
وقد تنازع العلماء في هذا الإكمال: هل هو فيما انتقصه العبد من كيفية الصلاة؟ أم فيما تركه من صلوات الفريضة سهوا أو نسيانا دون ما تركه عمدا؟ أم يشمل إكمال صلوات الفريضة المتروكة عمدا؟
جاء في عون المعبود: قال العراقي في شرح الترمذي: هذا الذي ورد من إكمال ما ينتقص العبد من الفريضة بما له من التطوع، يحتمل أن يراد به ما انتقص من السنن، والهيئات المشروعة المرغب فيها من الخشوع، والأذكار، والأدعية، وأنه يحصل له ثواب ذلك في الفريضة، وإن لم يفعله في الفريضة وإنما فعله في التطوع، ويحتمل أن يراد ما ترك من الفرائض رأسا، فلم يصله، فيعوض عنه من التطوع، والله تعالى يقبل من التطوعات الصحيحة عوضا عن الصلاة المفروضة، ولله سبحانه أن يفعل ما شاء، فله الفضل والمن، بل له أن يسامح، وإن لم يصل شيئا، لا فريضة، ولا نفلا .اهـ.
وجاء في تحفة الأحوذي: وقال ابن العربي: يحتمل أن يكون يكمل له ما نقص من فرض الصلاة وإعدادها بفضل التطوع، ويحتمل ما نقصه من الخشوع، والأول عندي أظهر؛ لقوله: ثم الزكاة كذلك، وسائر الأعمال، وليس في الزكاة إلا فرض أو فضل، فكما يكمل فرض الزكاة بفضلها، كذلك الصلاة، وفضل الله أوسع، ووعده أنفذ، وعزمه أعم. انتهى.
قال ابن عبد البر في الاستذكار: وهذا عندي معناه فيمن سها عن فريضة، ونسيها، ولم يذكرها إلى أن مات، وأما من ترك صلاة مكتوبة عامدا، أو نسيها ثم ذكرها، فلم يقمها، فهذا لا يكون [تكمل] له فريضة من تطوع أبدا، والله أعلم؛ لأن ترك الصلاة عمدا من الكبائر، لا يكفرها إلا الإتيان بها لمن كان قادرا عليها، هي توبته، لا يجزئه غير ذلك. اهـ.
وقال أيضا في التمهيد: أما إكمال الفريضة من التطوع فإنما يكون ذلك -والله أعلم- فيمن سها عن فريضة، فلم يأت بها، أو لم يحسن ركوعها، ولم يدر قدر ذلك، وأما من تعمد تركها، أو نسي ثم ذكرها، فلم يأت بها عامدا، واشتغل بالتطوع عن أداء فرضه، وهو ذاكر له، فلا تكمل له فريضته تلك من تطوعه. والله أعلم. انتهى.
وجاء في المحلى لابن حزم: وأما من تعمد ترك الصلاة حتى خرج وقتها، فهذا لا يقدر على قضائها أبدا، فليكثر من فعل الخير، وصلاة التطوع؛ ليثقل ميزانه يوم القيامة، وليتب، وليستغفر الله عز وجل. انتهى.
وقال أيضا: وأما قولنا: أن يتوب من تعمد ترك الصلاة حتى خرج وقتها، ويستغفر الله تعالى، ويكثر من التطوع؛ فلقول الله تعالى: {فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا * إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة}، ولقول الله تعالى: {والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم}، وقال تعالى: {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره}، وقال تعالى: {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا}، وأجمعت الأمة - وبه وردت النصوص كلها - على أن للتطوع جزءا من الخير، الله أعلم بقدره، وللفريضة أيضا جزء من الخير، الله أعلم بقدره، فلا بد ضرورة من أن يجتمع من جزء التطوع إذا كثر ما يوازي جزء الفريضة، ويزيد عليه؛ وقد أخبر الله تعالى أنه لا يضيع عمل عامل، وأن {الحسنات يذهبن السيئات}، وأن من ثقلت موازينه، فهو في عيشة راضية، ومن خفت موازينه، فأمه هاوية. انتهى.
وقد بان من كلام الإمام ابن حزم -رحمه الله- أنه يرى أن الصلاة المتروكة عمدا، لا يمكن قضاؤها بحال؛ ولذلك استقام عنده أن من نقص من صلاته عمدا، فإنه يمكنه تكميلها بالنوافل، ولكن بشرط التوبة من ترك الصلاة، وإلا كان عاصيا، ولا ينفعه حينئذ التقرب إلى الله بالنوافل ما لم يتب، فقد قال -رحمه الله-: وإنما هذا لمن تاب وندم، وأقلع، واستدرك ما فرط، وأما من تعمد ترك المفروضات، واقتصر على التطوع ليجبر بذلك ما عصى في تركه مصرا على ذلك، فهذا عاص في تطوعه؛ لأنه وضعه في غير موضعه؛ لأن الله تعالى لم يضعه لتترك الفريضة، بل ليكون زيادة خير ونافلة، فهذا هو الذى يجبر به الفرض المضيع. انتهى.
وعلى هذا؛ فقولك: "هل معنى ذلك أنني إذا فاتني الكثير من الصلوات المفروضة، ولكني صليت كثيرا من السنن والنوافل، فإن تلك السنن والنوافل، ستعوض الفرائض الفائتة؟".
جوابه أن ذلك يصح عند من يقول بذلك - كالإمام ابن حزم -رحمه الله- والذي قدمنا كلامه -ولكن بشرط أن تتوب أولا من تضييع الفرائض، ومما لا شك فيه أن الأحوط على كل حال أن تقضي ما فاتك، وهو المفتى به عندنا.
وراجع الفتويين التاليتين: 70806، 121796.
والله أعلم.