الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
ففي شهادة النساء في الحدود والدماء خلاف، وعدم قبول شهادتهن في ذلك هو مذهب الأئمة الأربعة.
قال الوزير ابن هبيرة رحمه الله: اتفقوا على أن النساء لا تقبل شهادتهن في الحدود والقصاص. انتهى.
وحكى في نيل الأوطار القول بجواز شهادة المرأة في الدماء ونحوها عن الأوزاعي والزهري، وحكى القول بالمنع عن غيرهما من العلماء، ثم قال في الاستدلال ما عبارته: واستدل الشارح المحلي للأول، بقوله تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان} [البقرة: 282]. قال: وعموم الأشخاص مستلزم لعموم الأحوال، المخرج منه ما يشترط فيه الأربعة، وما لا يكتفى فيه بالرجل والمرأتين. واستدل للثاني بما رواه مالك عن الزهري، قال: مضت السنة أنه لا يجوز شهادة النساء في الحدود، ولا في النكاح والطلاق. وقال: وقيس على الثلاثة باقي المذكورات، بجامع أنها ليست بمال، ولا يقصد منها مال، والقصد من الوكالة والوصاية الراجعتين إلى المال الولاية والخلافة، لا المال. انتهى.
وقد أخرج قول الزهري المذكور ابن أبي شيبة بإسناد فيه الحجاج بن أرطاة، وهو ضعيف، مع كون الحديث مرسلا لا تقوم بمثله الحجة، فلا يصلح لتخصيص عموم القرآن، باعتبار ما دخل تحت نصه، فضلا عما لم يدخل تحته، بل ألحق به بطريق القياس. وأما الحديثان المذكوران في الباب، فليس فيهما إلا مجرد التنصيص على شهادة الشاهدين في القصاص، وذلك لا يدل على عدم قبول شهادة رجل وامرأتين، وغاية الأمر أن النبي صلى الله عليه وسلم طلب ما هو الأصل الذي لا يجزي عنه غيره، إلا مع عدمه، كما يدل عليه قوله تعالى: {فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان} [البقرة: 282]. والأصل مع إمكانه متعين، لا يجوز العدول إلى بدله مع وجوده، فذلك هو النكتة في التنصيص في حديثي الباب على شهادة الشاهدين. انتهى كلام الشوكاني.
وممن ذهب إلى أن شهادة المرأتين قائمة مقام شهادة الرجل في كل شيء: أبو محمد ابن حزم -رحمه الله- كما نص عليه في المحلى.
وإذا علمت هذا، فقول الجمهور أصح -إن شاء الله- وذلك لما مر نقله عن الزهري من أن السنة مضت بذلك، ولآثار كثيرة عن السلف أورد طرفا صالحا منها أبو محمد في المحلى.
قال ابن أبي عمر في شرح المقنع، في بيان شروط شهود الزنى، ما عبارته: الشرط الثاني: أن يكونوا رجالا كلهم، ولا تقبل فيه شهادة النساء بحال. ولا نعلم فيه خلافا، إلا شيئا يروى عن عطاء، وحماد، أنه يقبل فيه ثلاثة رجال، وامرأتان. وهو قول شاذ، لا يعول عليه؛ لأن لفظ الأربعة اسم لعدد المذكرين، ويقتضى أن يكتفى فيه بأربعة، ولا خلاف في أن الأربعة إذا كان بعضهم نساء أنه لا يكتفى بهم، وأن أقل ما يجزئ خمسة، وهذا خلاف النص، ولأن في شهادتهن شبهة؛ لتطرق الضلال إليهن، قال الله تعالى: أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى. والحدود تدرأ بالشبهات. انتهى.
وإنما تقبل شهادة النساء منفردات فيما العادة ألا يطلع عليه غيرهن.
قال ابن قدامة في المغني: لا نعلم بين أهل العلم خلافا في قبول شهادة النساء المنفردات في الجملة. قال القاضي: والذي تقبل فيه شهادتهن منفردات خمسة أشياء: الولادة، والاستهلال، والرضاع، والعيوب تحت الثياب كالرتق والقرن والبكارة، والثيابة والبرص، وانقضاء العدة. انتهى.
وأما الصور التي ذكرتها، فعن أحمد رواية بقبول شهادة النساء فيها للضرورة، ورجح هذه الرواية شيخ الإسلام رحمه الله. قال ما لفظه: كما تقبل شهادة النساء في الحدود إذا اجتمعن في العرس، أو الحمام. ونص عليه أحمد في رواية بكر بن محمد عن أبيه. انتهى.
وقال رحمه الله: وباب الشهادات مبناه على الفرق بين حال القدرة وحال العجز؛ ولهذا قبل شهادة النساء فيما لا يطلع عليه الرجال، وقد نص أحمد على شهادتهن في الجراح وغيرها إذا اجتمعن ولم يكن عندهن رجال، مثل اجتماعهن في الحمامات والأعراس ونحو ذلك. وهذا هو الصواب؛ فإنه لا نص ولا إجماع ولا قياس يمنع شهادة النساء في مثل ذلك، وليس في الكتاب والسنة ما منع شهادة النساء في العقوبات مطلقا. انتهى.
وهذا القول قوي كما ترى، وهو وسط بين قول من قبل شهادتهن مطلقا، ومن ردها مطلقا.
فهذا من حيث التقرير العلمي، ثم الأمر في تلك المسائل مرده إلى اجتهاد القاضي، فإن ترجح له الأخذ بشهادتهن إذا، فهو قول قوي، قال به من ذكرنا من العلماء، وإن بدا له أن ذلك لا يثبت به حكم، فله جعل ذلك قرينة قوية يضيق بها على المتهم حتى يقر. وقد أطنب ابن القيم -رحمه الله- في بيان مشروعية اعتبار القرائن والعمل بها، في الطرق الحكمية؛ فانظره إن شئت.
والله أعلم.