السؤال
مواقفي هذه تدور حول رقم الفتوى: 28727. كنت أراسل أحد الأشخاص، وظننت أني لو رددت عليه ردا معينا، فسيكون كفرا، ولكنه لم يكن كذلك، ولكن لم أجد فرارا من هذا الرد، وكنت أظنه كفرا، وفعلته رغم هذا، وقلت (وأنا أعمل إيه طيب) وهو مصطلح مصري مشهور. ساعتها أحسست بعد قولي هذا أني كنت راضيا بالكفر مختارا له؛ لأن هذا المصطلح يدل على قلة الحيلة، والرضا بهذا الفعل، وأنه لا خيار سوى فعله، وتحمل ما بعده من عواقب، أنا في العادي مرعوب من الكفر، ودائما خائف منه، وأركز في كل فعل أفعله؛ لكي لا يكون مخرجا من الملة، وأعيش في رعب وهلع، وأنا كنت متضايقا جدا بعد فعلي هذا، ومتضايق من هذا الرضا الذي جاء وأنا أفعل الفعل وهذا القول.
والسؤال الثاني هو أني أقسم العقيدة إلى ثلاثة أجزاء: جزء لا أفهمه، وجزء أحس أن ما في بالي هو الحق، والجزء الأخير أحس أن ما في بالي هو الحق بنسبة عالية جدا، وعلى العموم كل هذه الأجزاء تتسم بصفه مشتركة ألا وهي أني أقول: كل وأي شيء يريدني الله أن أؤمن به، فأنا مؤمن به، وأي شيء لا أعرفه أو لا أفهمه، فأنا مؤمن بالمراد من هذا الشيء حتى لو لم أكن أعرف، فأنا لا أشكك في شيء معروف، أنا فقط لا أفهمه، ولكن أؤمن بالمراد منه أكيد. فهل القسم الثالث شك مخرج من الملة؟
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد علمنا من السائل في أكثر من سؤال له أنه مصاب بالوسوسة، وأنها وصلت به لمرحلة قوية جدا، على حد وصفه لنفسه في أسئلة سابقة، حتى قال في أحدها: حتى أصبح قبل كل عمل أقوم به ولو حتى تحريك للذراع، أو حتى التنفس يأتي الشيطان ويقول لي: هذا كفر! أو عندما تكون هناك فكرة مكفرة يقول: لو حركته تكون مقرا بها ... إلى آخر ما قال.
وقد نصحناه مرار بالرفق بنفسه، والكف عن ذلك، والإعراض عن هذه الوساوس، التي يعلم السائل أنها من الشيطان! وأنه لا سبيل إلى علاج الوسوسة إلا بذلك. كما نصحناه بعرض نفسه على طبيب مختص بعلاج الوساوس وأمثالها من الأمراض.
ونحن نكرر هذه النصيحة، ونقول له: إن خوفك من هذه الأفكار ورعبك منها، كما ذكرت عن نفسك مرارا، هو دليل كاف على صحة اعتقادك وقوة إيمانك، فقد جاء ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به؟ قال: وقد وجدتموه؟ قالوا: نعم، قال: ذاك صريح الإيمان. رواه مسلم. قال النووي: معناه: استعظامكم الكلام به هو صريح الإيمان، فإن استعظام هذا وشدة الخوف منه، ومن النطق به، فضلا عن اعتقاده، إنما يكون لمن استكمل الإيمان استكمالا محققا وانتفت عنه الريبة والشكوك. اهـ.
ولا يبقى لنا هنا إلا التعليق على قولك: (ففي هذه الحالة أقول: أنا مؤمن بالمراد من هذا الاعتقاد، وما يريدني الله أن أؤمن به ..) الخ.
فنقول: إن هذا يكفيك، فهذه الطريقة نافعة جدا ومفيدة عند الاشتباه، وقد نقل ابن قدامة في ذم التأويل، وفي لمعة الاعتقاد، عن الإمام الشافعي أنه قال: آمنت بالله، وبما جاء عن الله، على مراد الله، وآمنت برسول الله، وبما جاء عن رسول الله، على مراد رسول الله. اهـ.
وقال أبو زكريا الأزدي السلماسي في كتابه (منازل الأئمة الأربعة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد): واتفق أهل العلم أن أحدا لم يجمع جمل الإيمان بالله وبرسوله كما جمعه الشافعي رضي الله عنه في قوله الموجز: آمنت بالله وبما جاء عن الله على مراد الله ... اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في الرسالة المدنية: أما ما قاله الشافعي، فإنه حق يجب على كل مسلم أن يعتقده، ومن اعتقده ولم يأت بقول يناقضه، فإنه سالك سبيل السلامة في الدنيا والآخرة. اهـ.
وعلق الشيخ ابن جبرين على هذا النقل في لمعة الاعتقاد فقال: يفيد أن الواجب على المسلم قبول ما جاء عن الله ورسوله، سواء فهم معناه والحكمة فيه أو خفي عليه. كما أن عليه التصديق بربوبية الله وإلهيته، وبرسالة محمد عليه الصلاة والسلام، وكذا يلزمه قبول ما ورد عن الله في كتابه، أو على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام، فإن فهم معنى ذلك قال به، وإلا فوضه أي: فوض العلم بالكنه والكيفية إلى الله وحده. وهذا معنى قوله: (على مراد الله) أي: على ما أراد منه، مع أنه ما خاطب الناس إلا بما يفهمونه. اهـ.
والله أعلم.