السؤال
كيف يتعامل الرحمن -جل وعلا- مع المذنبين والعصاة؟ هل يبغضهم أم إنه يحبهم، ويريد لهم التوبة، والرجوع إليه، كما تفعل الأم مع أولادها؟ هل الأصل أن الله يحب كل الناس منذ خلقهم، أم إن حبه -سبحانه وتعالى- لنا معتمد على أعمالنا؟
كيف يتعامل الرحمن -جل وعلا- مع المذنبين والعصاة؟ هل يبغضهم أم إنه يحبهم، ويريد لهم التوبة، والرجوع إليه، كما تفعل الأم مع أولادها؟ هل الأصل أن الله يحب كل الناس منذ خلقهم، أم إن حبه -سبحانه وتعالى- لنا معتمد على أعمالنا؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فجواب هذا السؤال يتضح بتقرير ثلاثة أمور:
أولها: أن الله تعالى حكم عدل، ينزل عباده كلا في منزلته التي تليق بحاله، ولا يسوي بين الناس مع اختلاف أحوالهم، فهو سبحانه يحب المتقين، والمحسنين، والمقسطين، والمتوكلين، والتوابين، والمتطهرين، ولا يحب الظالمين، ولا المعتدين، ولا الخائنين، ولا المستكبرين، ولا المسرفين، فضلا عن الكافرين.
ومن الناس من يجمع بين ما يحبه الله، وما يبغضه، فيكون محبوبا من وجه، مبغوضا من وجه، وهذا مبني على قاعدة ذكرها العاقولي في شرحه على مصابيح السنة، ونقلها عنه ابن علان في دليل الفالحين، وفي الفتوحات الربانية، وهي: أن المؤمنين من حيث الإيمان محبوبون، ويتفاضلون بعد في صفات الخير، وشعب الإيمان، فيتميز الفاضل بزيادة محبة، وقد يتفاوتون في الرذائل، فيصيرون مبغوضين من حيث ذلك، ويصير بعضهم أبغض من بعض، وقد يكون الشخص الواحد محبوبا من وجه، مبغوضا من وجه. اهـ.
فالله عز وجل لا يحب كل الناس، وقد سبق أن بينا سبب ذلك في الفتوى رقم: 162423.
ويبقى الفرق كبيرا بين الكافر وبين المؤمن العاصي! فعصاة المؤمنين معهم أصل المحبة على أية حال، وإن جمعوا إلى ذلك بغضا بسبب معاصيهم، فالمؤمن المذنب كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: هو في ذنوبه بين أمرين: إما أن يتوب، فيتوب الله عليه، فيكون من التوابين الذين يحبهم الله. وإما أن يكفر عنه بمصائب؛ تصيبه ضراء فيصبر عليها، فيكفر عنه السيئات بتلك المصائب، وبالصبر عليها ترتفع درجاته. وقد جاء في بعض الأحاديث: يقول الله تعالى: أهل ذكري أهل مجالستي، وأهل شكري أهل زيادتي، وأهل طاعتي أهل كرامتي، وأهل معصيتي لا أؤيسهم من رحمتي، إن تابوا فأنا حبيبهم - أي: محبهم؛ فإن الله يحب التوابين، ويحب المتطهرين - وإن لم يتوبوا، فأنا طبيبهم، أبتليهم بالمصائب لأكفر عنهم المعائب. اهـ.
وزاد في موضع آخر، فقال: هذا فعله مع عباده إذا أذنبوا، إما أن يتوب عليهم، وإما أن يبتليهم بما يطهرهم، إذا لم يجعل السيئات تخفض درجتهم، وإن لم يكن هذا ولا هذا، انخفضت درجتهم بحسب سيئاتهم عن درجات من ساواهم في الحسنات، وسلم من تلك السيئات، كما قال سبحانه: {ولكل درجات مما عملوا}، لأهل الجنة ولأهل النار درجات من أعمالهم بحسبها. اهـ.
وثانيها: أن إرادة الله تعالى نوعان: إرادة كونية قدرية، وإرادة شرعية دينية.
والفرق بينهما: أن الإرادة الكونية القدرية، لا بد أن تقع، وهي تتعلق بما يحبه الله، كالطاعات، وكذلك بما يبغضه الله، كالمعاصي.
وأما الإرادة الدينية الشرعية، فلا تتعلق إلا بما يحبه الله، وقد تقع وقد لا تقع؛ لأن الله تعالى أعطى العباد اختيارا في الطاعة والمعصية، وراجع في ذلك الفتوى رقم: 130717. ولمزيد الفائدة يمكن الاطلاع على الفتويين التاليتين: 135313، 135629.
وثالثها: محبة الله تعالى وبغضه، ورضاه وسخطه، صفات متعلقة بمشيئته تعالى، فيحدث منها ما يشاء، فيحب العبد إذا آمن وعمل صالحا، فإذا كفر وعمل غير صالح، أبغضه بعد أن كان يحبه، والعكس كذلك. وهو سبحانه يعلم بكلا الحالين أزلا، وعاقبة الصنفين سلفا، كما سبق أن فصلناه في الفتوى رقم: 299689.
وقال الشيخ ابن عثيمين في القول المفيد على كتاب التوحيد: محبة الله تعالى ثابتة له حقيقة، وهي من صفاته الفعلية، وكل شيء من صفات الله يكون له سبب، فهو من الصفات الفعلية، والمحبة لها سبب، فقد يبغض الله إنسانا في وقت، ويحبه في وقت لسبب من الأسباب. اهـ.
وصفات الله تعالى لا تشبه صفات المخلوقين، فلا يصح أن يقال: (كما تفعل الأم مع أولادها)!! فنحن نثبت صفة المحبة لله تعالى، إثباتا بلا تمثيل، وتنزيها بلا تعطيل، فلا نحرف، ولا نكيف، ولا نمثل، ولا نعطل، بل نؤمن بأن الله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير {الشورى:11}.
والله أعلم.