الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فلو فرقت السائلة بين فعل الله وما ينسب إليه سبحانه، وبين فعلها وما ينسب إليها، لما ورد عليها هذا الإشكال، فمن أضله الله تعالى فبعدله وعلمه وحكمته أضله، وهذه الصفات لا شك أنها تستوجب الحمد لله تعالى.
وأما كسب العبد الذي سبب له الإضلال من ذنوبه ومعاصيه، فهي لا شك توجب للعبد الذم وتلحق به اللوم، وتوجب عليه التوبة والأوبة والاستغفار والاعتذار. كما أنه يجب على العبد أن يكره من نفسه ومن غيره هذه الأفعال وينفر منها ويبتعد عنها؛ فإن الله يكرهها وينهى عنها. قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ {النحل: 90}
وقال سبحانه: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ {البقرة: 276} وبذلك يجمع العبد بين حمد الله على ما هو منه، وبين ذمه لنفسه على ما هو منها، قال عز وجل: مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ {النساء: 79}.
وأما ما يقوله العبد في مثل هذه الأحوال، فيمكن أن يستفاد مما روته عائشة رضي الله عنها، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى ما يحب قال: الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. وإذا رأى ما يكره قال: الحمد لله على كل حال. رواه ابن ماجه، وصححه البوصيري، وحسنه الألباني.
ويستفاد أيضا من قول النبي صلى الله عليه وسلم: الحمد لله على كل حال، اللهم رب كل شيء ومليكه وإله كل شيء أعوذ بك من النار. رواه أبو داود، وقال الألباني: صحيح الإسناد.
فقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين الحمد لله على كل حال، وبين الاستعاذة من حال أهل النار، الذي هو أثر من آثار الكفر والفسوق والعصيان.
ويوضح ما تقدم، ويجيب على الاستفسار الثاني، في آن واحد، أن تنتبه السائلة إلى الفرق الكبير بين مراد الله الديني الشرعي، ومراده الكوني القدري، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الإرادة في كتاب الله نوعان: إرادة دينية شرعية، وإرادة كونية قدرية، فالأول كقوله تعالى: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} وقوله تعالى: {ولكن يريد ليطهركم} وقوله تعالى: {يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم} إلى قوله: {والله يريد أن يتوب عليكم} فإن الإرادة هنا بمعنى المحبة والرضا، وهي الإرادة الدينية، وإليه الإشارة بقوله: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}. وأما الإرادة الكونية القدرية فمثل قوله تعالى: {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء} ومثل قول المسلمين: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. فجميع الكائنات داخلة في هذه الإرادة والمشيئة لا يخرج عنها خير ولا شر ولا عرف ولا نكر، وهذه الإرادة والمشيئة تتناول ما لا يتناوله الأمر الشرعي، وأما الإرادة الدينية فهي مطابقة للأمر الشرعي لا يختلفان ... فما يقع في الوجود من المنكرات هي مرادة لله إرادة كونية، داخلة في كلماته التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، وهو سبحانه مع ذلك لم يردها إرادة دينية ولا هي موافقة لكلماته الدينية، ولا يرضى لعباده الكفر، ولا يأمر بالفحشاء، فصارت له من وجه مكروهة ..
وإرادته لعبده المؤمن خير له ورحمة به؛ فإنه قد ثبت في الصحيح: أن الله تعالى لا يقضي للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له.
وأما المنكرات فإنه يبغضها ويكرهها؛ فليس لها عاقبة محمودة من هذه الجهة إلا أن يتوبوا منها فيرحموا بالتوبة، وإن كانت التوبة لا بد أن تكون مسبوقة بمعصية؛ ولهذا يجاب عن قضاء المعاصي على المؤمن بجوابين، أحدهما: أن هذا الحديث لم يتناولها وإنما تناول المصائب.
والثاني: أنه إذا تاب منها كان ما تعقبه التوبة خيرا فإن التوبة حسنة وهي من أحب الحسنات إلى الله، والله يفرح بتوبة عبده إذا تاب إليه أشد ما يمكن أن يكون من الفرح، وأما المعاصي التي لا يتاب منها فهي شر على صاحبها، والله سبحانه قدر كل شيء وقضاه؛ لما له في ذلك من الحكمة، كما قال: {صنع الله الذي أتقن كل شيء} وقال تعالى: {الذي أحسن كل شيء خلقه} فما من مخلوق إلا ولله فيه حكمة اهـ.
وعلى ذلك، فإن الرضا بالمقدور إنما يراد مطلقا في المصائب لا المعائب، أو بعبارة أخرى ـ كما قال شيخ الإسلام: هذا إنما يتناول ما أصاب العبد لا ما فعله العبد. يعني معائبه ومخالفاته للشريعة، فإن الله لا يرضى لعباده الكفر كما تقدم، وبالتالي لا يرضاه المؤمن لا لنفسه ولا لغيره. بل يجب عليه أن يسعى في إزالته ومفارقته.
ولمزيد الفائدة يمكن الاطلاع على الفتوى رقم: 118200.
والله أعلم.