السؤال
هل من الممكن أن يجتهد الإنسان في ترك المعاصي، وفعل ما أمر الله به، وينطبق عليه قوله تعالى: (ويحسبون أنهم مهتدون).
هل من الممكن أن يجتهد الإنسان في ترك المعاصي، وفعل ما أمر الله به، وينطبق عليه قوله تعالى: (ويحسبون أنهم مهتدون).
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فإنه لا يمكن أن يكون المرء مخلصا له سبحانه متبعا شريعته، ومقتفيا لهدي نبيه -صلى الله عليه وسلم- في فعل الطاعات وترك المعاصي، ولا يكون مهتديا ! هذا أمر بديهي.
وإنما قد يظن المرء نفسه مهتديا، ولا يكون في نفس الأمر كذلك إذا أخل بالإخلاص لله، ولم يرد وجهه الكريم، أو أخل بالاتباع لشريعته سبحانه ودينه، فتعبد لله بما لم يشرعه، ولا يحبه -كحال الرهبان ونحوهم-.
قال ابن تيمية: وقد أمر الله عباده المؤمنين أن يدعوه في كل صلاة بقوله: اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين؛ ولهذا نزه الله نبيه عن هذين فقال تعالى: والنجم إذا هوى * ما ضل صاحبكم وما غوى * وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى [سورة النجم 1 - 4]
فالضال الذي لا يعلم الحق بل يظن أنه على الحق، وهو جاهل به كما عليه النصارى، والغاوي الذي يتبع هواه وشهواته مع علمه بأن ذلك خلاف الحق كما عليه اليهود.
وفي الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- إن أخوف ما أخاف عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم، ومضلات الفتن. فإن الغي والضلال يجمع جميع سيئات بني آدم. فإن الإنسان كما قال تعالى: وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا [سورة الأحزاب 72] فبظلمه يكون غاويا، وبجهله يكون ضالا، وكثيرا ما يجمع بين الأمرين فيكون ضالا في شيء غاويا في شيء آخر؛ إذ هو ظلوم جهول.
وهو -صلى الله عليه وسلم- ذكر شهوات الغي في البطون والفروج؛ كما في الصحيح أنه قال: من تكفل لي بما بين لحييه وما بين رجليه تكفلت له بالجنة. فإن هذا يعلم عامة الناس أنه من الذنوب لكن يفعلونه اتباعا لشهواتهم.
وأما مضلات الفتن: فأن يفتن العبد فيضل عن سبيل الله، وهو يحسب أنه مهتد، كما قال: ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين * وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون [سورة الزخرف 36 - 37] وقال: أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء [سورة فاطر 8] وقال: وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل وما كيد فرعون إلا في تباب [سورة غافر 37] وقال: قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا [سورة الكهف 103 - 104].
ولهذا تأول أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية فيمن يتعبد بغير شريعة الله التي بعث بها رسوله من المشركين وأهل الكتاب كالرهبان، وفي أهل الأهواء من هذه الأمة كالخوارج الذين أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بقتالهم وقال فيهم: يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة. وذلك لأن هؤلاء خرجوا عن سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجماعة المسلمين حتى كفروا من خالفهم مثل عثمان وعلي، وسائر من تولاهما من المؤمنين، واستحلوا دماء المسلمين وأموالهم، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- فيهم: يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان .اهـ. باختصار من جامع الرسائل.
وقال ابن القيم: وقال سبحانه: ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين * وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون. فأخبر سبحانه ان من ابتلاه بقرينه من الشياطين وضلاله به إنما كان بسبب إعراضه وعشوه عن ذكره الذي أنزله على رسوله، فكان عقوبة هذا الإعراض أن قيض له شيطانا يقارنه، فيصده عن سبيل ربه، وطريق فلاحه، وهو يحسب أنه مهتد؛ حتى إذا وافى ربه يوم القيامة مع قرينه، وعاين هلاكه وإفلاسه، قال: يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين. وكل من أعرض عن الاهتداء بالوحي الذي هو ذكر الله، فلا بد أن يقول هذا يوم القيامة.
فإن قيل: فهل لهذا عذر في ضلاله إذا كان يحسب أنه على هدى كما قال تعالى: ويحسبون أنهم مهتدون؟ قيل: لا عذر لهذا وأمثاله من الضلال الذين منشأ ضلالهم الإعراض عن الوحي الذي جاء به الرسول، ولو ظن انه مهتد؛ فإنه مفرط بإعراضه عن اتباع داعي الهدى، فإذا ضل فإنما أتي من تفريطه وإعراضه، وهذا بخلاف من كان ضلاله لعدم بلوغ الرسالة، وعجزه عن الوصول إليها فذاك له حكم آخر.
والوعيد في القرآن إنما يتناول الأول، وأما الثاني فإن الله لا يعذب أحدا إلا بعد إقامة الحجة عليه، كما قال تعالى: وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا. وقال تعالى: رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل. وقال تعالى في أهل النار: وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين. وقال تعالى: أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين * أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين * أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين * بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين. وهذا كثير في القرآن. اهـ. من مفتاح دار السعادة.
والله أعلم.