السؤال
سؤالي: لماذا يحرص الله على تعذيب البشر؟ خلقنا الله رغما عنا، ثم ابتلانا بشيء رفضه الكون كله، لم نقبل أن نكلف به، ثم يعذبنا بشهوات ركبها فينا، بل خلق الشياطين لتحثنا عليها. ربما تقول إن المحن والمصائب فيها تطهير ومغفرة، لكن ماذا عما بعد الموت؟ أي حاجة لله أن يفرض ضمة القبر على الصالحين بل الأطفال؟ ما الحكمة في تعذيب وترويع هذه النفس الطاهرة البريئة؟
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله تعالى أن يلهمنا رشدنا، وأن يقينا شرور أنفسنا، والتي منها ما ينضح به هذا السؤال من المغالطات المنطقية والشرعية!
فقد بناه صاحبه على مقدمات وتصورات خاطئة، سواء في جانب ربوبية الله تعالى، أو جانب عبودية الإنسان.
والحقيقة أن تفكيك المسائل التي نثرها السائل في سؤاله، وتفصيل الجواب عنها: أمر يطول، ولا يسعنا أن نعطيه حقه من البيان في مجال الفتوى، ولذلك سنكتفي بإجمال القول فيه.
فنقول: أصل هذا الإشكالات إنما وجد بسبب الجهل بالله تعالى، وليته كان جهلا بسيطا، بل هو جهل مركب -والعياذ بالله- وفيه من قلب الحقائق ما لا يخطئه النظر! فالله تعالى هو الرحمن الرحيم، العفو الغفور، الحكم العدل الذي لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما [النساء: 40]، ومن وصفه سبحانه ما جاء في قوله: كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم [الأنعام: 54]. وما جاء في قوله: ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما [النساء: 110]، وقوله: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون [الأنعام: 160]، وقوله: من جاء بالحسنة فله خير منها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون [القصص: 84]، وقوله: والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما * يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا * إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما [الفرقان: 68 - 70].
وقوله تعالى في الحديث القدسي: يا عبادي؛ إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها. فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك، فلا يلومن إلا نفسه. رواه مسلم.
إلى غير ذلك من بينات القرآن، ونصوص الوحي المعصوم التي تعرف العباد بربهم، وتحول بينهم وبين اعتقاد الباطل، وظن السوء بالله تبارك وتعالى. وتكون كالأصل المحكم الذي يرد إليه موارد الشبهات، والقاعدة المقررة التي تحاكم إليها فروع المنازعات.
- ومن جملة ذلك قول السائل: لماذا يحرص الله على تعذيب البشر؟! فهذا سؤال عن علة شيء لم يوجد أصلا! فليس من صفة الله -عز وجل-: الحرص على تعذيب البشر!!! فهذا يتعارض مع ما سبق من النصوص السابقة، بل هو سبحانه كما أخبر عن نفسه فقال: ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما. [النساء: 147]، وإلا فقد كان في مقدور الله تعالى أن يعذب خلقه جميعا.
- ومنه قول السائل: (ابتلانا بشيء رفضه الكون كله لم نقبل أن نكلف به)!! فهذا أمر لا يسلم بإطلاقه؛ وقوله تعالى: إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان [الأحزاب: 72]. يفهم منه أن التكليف قد عرض على أبينا آدم، فتحمله وسرى التكليف إلى ذريته بالتبع، وقيل: عرض علينا نحن أيضا في عالم الذر حين أخذ علينا الميثاق المذكور في قوله تعالى: وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين [الأعراف 172]. على خلاف بين المفسرين في تفسير الآيتين.
وراجع في ذلك الفتوى: 200521 وما أحيل عليه فيها، والفتوى: 118200.
- ومنه قول السائل: (يعذبنا بشهوات ركبها فينا) فهذه الشهوات ليست محرمة بالكلية، بل لها من المصارف المشروعة ما ينفع وتستمر به الحياة، كما أن لها من المصارف المحرمة ما يضر وتفسد به الحياة. فاقتضت رحمة الله وحكمته أن يأتي الشرع ببيان ذلك وتفصيله، ليحيى من حي عن بينة، ويهلك من هلك عن بينة، ويتميز الخبيث من الطيب، ويعرف الصالح من الطالح. فكيف يقال عن هذه الشهوات النافعة الضرورية لحياة الإنسان: إن الله عذبنا بها؟! بل امتن بخلقها أولا، ثم ببيان كيفية الانتفاع بها، ثم بالتحذير من توجيهها إلى غير وجهتها.
- ومنه قول السائل: (خلق الشياطين لتحثنا عليها) فهذا أيضا من القول بغير علم، فالشياطين وإن كانت تزين الشر لبني آدم، إلا أن حصر الغاية من خلقها في حث بني آدم على الشهوات: أمر لا دليل عليه، بل هو على خلاف الدليل، ففي خلقهم من الحكم والمصالح ما ينبغي الوقوف عليه، وراجع في ذلك الفتويين: 8546، 183595.
- ومنه استشكال السائل لضمة القبر للصالحين والأطفال؟ وقوله: (ما الحكمة في تعذيب وترويع هذه النفس الطاهرة البريئة؟) فهذا ليس بصحيح، وليست ضمة القبر بالنسبة للأطفال والصالحين من العذاب في شيء، وقد سبق لنا بيان ذلك في الفتوى: 134117. ولمزيد الفائدة يمكن الاطلاع على الفتاوى: 343843، 31767، 117638.
وبالجملة فإنا نرى أن إشكالات السائل تدور حول أصل واحد، وهو خلق الشر ونسبته لله تعالى، ولذلك ننصحه بقراءة كتاب (مشكلة الشر ووجود الله) للدكتور سامي عامري.
والله أعلم.