الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

جواب شبهات حول ضمة القبر ورحمة رب العالمين

السؤال

سؤالي: عن ضمة القبر والحديث المعروف بخصوص سيدنا سعد بن معاذ.
سؤالي هو ما ذنب المؤمن يعاقب بضمة القبر بدون ذنب؟
حيث إن كثيرا من الناس خائفون من هذا الحديث، وقد سالت أخت في موقعكم عن هذا الموضوع ولم تطمئنوها بشيء سوى أن الله رحيم، مما يعني أن ضمة القبر للجميع المؤمن وغير المؤمن، فكيف يعاقب المؤمن بهذه العقوبة الشنيعة دون ذنب؟ وكذلك عندما دفن النبي (ص) ابنه إبراهيم وأخذ يلقنه إذا جاءك ملكان فقل كذا وكذا...الخ هل يسأل الطفل في القبر وهو لم يتجاوز عمره سنتين؟ ما ذنبه وهو أصلا لا يجيد الكلام؟ أليس القلم قد رفع عن ثلاث منهم الفتى حتى يحتلم؟
أرجو توضيح هذه الأحاديث المرعبة هل هي صحيحة أم لا؟ ولماذا لا تفسرونها لنا ليطمئن الناس؟ حيث إنني أسمع كثيرا من الناس يقولون ألا تعلم أن 999 بالألف من الناس سيذهبون إلى النار لماذا أصلي إذن ؟ هل سأكون أنا الناجي من هؤلاء الألف؟ وغيرها من الأحاديث مثل حديث ويل للأعقاب من النار؟ فهل يعذب أرحم الراحمين عبده المؤمن الموحد لمجرد أن قليلا من النار لم يمس عقبه؟

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فقد جمع السائل الكريم بين صواب وخطأ، فأما صوابه فهو جزمه بعدل الله تعالى ورحمته، وأما خطؤه فهو حكمه باقتضاء هذا العدل وتلك الرحمة ما لا يقتضيانه، ومن ذلك استبعاده الوعيد الثابت في الصحيحين في قول صلى الله عليه وسلم: ويل للأعقاب من النار.

فأي غرابة في توعد من أتى بما لا يصحح طهارته ومن ثم صلاته ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله عز وجل. رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه، وصححه الألباني.

ومن لم تتم صلاته أهل للعقاب بلا شك. ومثل هذا لا يصح استنكاره، لثبوت النص به دون معارض صحيح، وإلا فيمكن أن يقابل استنكار السائل باستنكارنا نحن على المقصر الذي أمِر بإسباغ الوضوء ثم تهاون ولم يمتثل حتى بطل وضوؤه ثم صلاته. ومن معالم العدالة الظاهرة على هذا الحديث اختصاص الجزء الذي لم يصبه الماء بالوعيد دون سائر الجسد. على أن أهل السنة يعتقدون أن أنواع الوعيد التي تطال الموحدين إنما هي في مشيئة الله، فإن شاء غفر وعفا، وإن شاء آخذ وعاقب.

وأما حديث سعد بن معاذ وضمة القبر، فهذا هو الذي يستحق أن يسأل عنه ويستشكل، فإن هذا الحديث يثبت أن ضمة القبر نائلة كل أحد طائعا كان أو عاصيا، كما سبق بيانه في الفتوى رقم: 16163.

وأصل الإشكال يكمن في فهم أن ضمة القبر هذه إنما هي نوع من أنواع العذاب أو العقوبة، وهذا ليس بصحيح، فإن المؤمن وخاصة الكامل كسعد بن معاذ رضي الله عنه، فضلا عن الأطفال، حيث ثبت أنهم تنالهم ضمة القبر أيضا، فهؤلاء جميعا ليسوا من المعذبين في قبورهم، ولذلك علق الذهبي في ترجمة سعد من (سير أعلام النبلاء) على هذا الحديث فقال: هذه الضمة ليست من عذاب القبر في شيء، بل هو أمر يجده المؤمن كما يجد ألم فقد ولده وحميمه في الدنيا، وكما يجد من ألم مرضه وألم خروج نفسه، وألم سؤاله في قبره وامتحانه، وألم تأثره ببكاء أهله عليه، وألم قيامه من قبره، وألم الموقف وهوله، وألم الورود على النار، ونحو ذلك . فهذه الأراجيف كلها قد تنال العبد، وما هي من عذاب القبر، ولا من عذاب جهنم قط، ولكن العبد التقي يرفق الله به في بعض ذلك أو كله، ولا راحة للمؤمن دون لقاء ربه هـ.

وقال الدكتور محمد حيدر في رسالته للدكتوراه وهي عن (البرزخ): ضمة القبر نائلة كل أحد، إلا أنها مختلفة الاعتبار، فهي عذاب في القبر في حق الكافر والمنافق، وليست عذاباً في حق المؤمن المطيع هـ.

وقال السفاريني في (لوامع الأنوار): قال أبو القاسم السعدي: والفرق بين المسلم والكافر في ضمة القبر دوامها للكافر، وحصول هذه الحالة للمؤمن في أول نزوله إلى قبره ثم يعود الانفساح له فيه. قال: والمراد بضغطة القبر التقاء جانبيه على جسد الميت اهـ.

ثم نقل عن محمد التميمي قوله: ضمة القبر إنما أصلها أن الأرض أمهم ومنها خلقوا، فغابوا عنها الغيبة الطويلة فلما ردوا إليها وهم أولادها ضمتهم ضمة الوالدة إذا غاب عنها ولدها ثم قدم، فمن كان مطيعا ضمته برفق، ومن كان عاصيا ضمته بعنف سخطا لربها عليه. وقد أخرج البيهقي وابن منده والديلمي وابن النجار عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: يا رسول الله إنك منذ حدثتني بصوت منكر ونكير وضغطة القبر ليس ينفعني شيء ؟ قال: "يا عائشة إن أصوات منكر ونكير في سماع المؤمنين كإثمد في العين، وإن ضغطة القبر على المؤمن كالأم الشفيقة يشكو إليها ابنها الصداع فتغمز رأسه غمزا رفيقا، ولكن يا عائشة ويل للشاكين في الله كيف يضغطون في قبورهم كضغطة الصخرة على البيضة هـ.

وقال الشيخ ابن عثيمين في (لقاءات الباب المفتوح): هذا الحديث مشهور عند العلماء، وعلى تقدير صحته، فإن ضمة الأرض للمؤمن ضمة رحمة وشفقة، كالأم تضم ولدها إلى صدرها. أما ضمتها للكافر فهي ضمة عذاب والعياذ بالله هـ.

وقال المناوي في (فيض القدير): المؤمن الكامل ينضم عليه ثم ينفرج عنه سريعاً، والمؤمن العاصي يطول ضمه ثم يتراخى عنه بعد، وأن الكافر يدوم ضمه أو يكاد أن يدوم هـ. وانظر الفتوى رقم: 18370.

وأما مسألة سؤال الأطفال في القبر، فقد تعرض لها الإمام ابن القيم في كتاب (الروح) فقال: المسألة الثالثة عشرة وهي أن الأطفال هل يمتحنون في قبورهم، اختلف الناس في ذلك على قولين، هما وجهان لأصحاب أحمد، وحجة من قال أنهم يسألون أنه يشرع الصلاة عليهم و الدعاء لهم و سؤال الله أن يقيهم عذاب القبر وفتنة القبر ... قالوا: والله سبحانه يكمل لهم عقولهم ليعرفوا بذلك منزلهم ويلهمون الجواب عما يسألون عنه. قالوا: وقد دل على ذلك الأحاديث الكثيرة التي فيها أنهم يمتحنون في الآخرة. وحكاه الأشعري عن أهل السنة والحديث، فإذا امتحنوا في الآخرة لم يمتنع امتحانهم في القبور.

قال الآخرون: السؤال إنما يكون لمن عقل الرسول والمرسل، فيسأل: هل آمن بالرسول وأطاعه أم لا؟ فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فأما الطفل الذي لا تمييز له بوجه ما فكيف يقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ ولو رد إليه عقله في القبر فإنه لا يسأل عما لم يتمكن من معرفته والعلم به، ولا فائدة في هذا السؤال، وهذا بخلاف امتحانهم في الآخرة فإن الله سبحانه يرسل إليهم رسولا ويأمرهم بطاعة أمره وعقولهم معهم، فمن أطاعه منهم نجا ومن عصاه أدخله النار، فذلك امتحان بأمر يأمرهم به يفعلونه ذلك الوقت، لا أنه سؤال عن أمر مضى لهم في الدنيا من طاعة أو عصيان كسؤال الملكين في القبر هـ.

ثم أجاب رحمه الله عن أدلة القائلين بسؤالهم. ومعنى هذا أن الراجح أنهم لا يسألون في قبورهم، فهم لا يتعرضون لفتنة القبر، بخلاف ضمته، فإنها كما أسلفنا ليست من العذاب ولا من العقاب في شيء.

وأما نسبة أهل الجنة إلى أهل النار المذكورة في السؤال، فهي صحيحة، وراجع في ذلك الفتوى رقم: 38434.

ولا شك أن هذا مما يخيف المؤمن بل يرعبه، وقد حصل ذلك بالفعل لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لما سمعوا به، وشعروا بما يصفه السائل، فأوضح لهم النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بما يزيل يأسهم، فعن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله تعالى: يا آدم. فيقول: لبيك وسعديك والخير في يديك. فيقول: أخرج بعث النار. قال: وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسع مائة وتسعة وتسعين. فعنده يشيب الصغير وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد. قالوا: يا رسول الله، وأينا ذلك الواحد؟! وفي رواية: فشق ذلك على الناس حتى تغيرت وجوههم. فقال صلى الله عليه وسلم: أبشروا؛ فإن منكم رجلا، ومن يأجوج ومأجوج ألفا.

وفي رواية مسلم: ثم قال: والذي نفسي بيده إني لأطمع أن تكونوا ربع أهل الجنة. فحمدنا الله وكبرنا، ثم قال: والذي نفسي بيده إني لأطمع أن تكونوا ثلث أهل الجنة. فحمدنا الله وكبرنا، ثم قال: والذي نفسي بيده إني لأطمع أن تكونوا شطر أهل الجنة، إن مثلكم في الأمم كمثل الشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود.

وفي حديث عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: اعملوا وأبشروا؛ فوالذي نفس محمد بيده إنكم لمع خليقتين ما كانتا مع شيء إلا كثرتاه: يأجوج ومأجوج. رواه الترمذي وقال: حسن صحيح. وصححه الألباني. ولمزيد الفائدة يمكن الاطلاع على الفتويين: 121527 ، 11475.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني