السؤال
ما حكم فعل الذنب، والإصرار عليه، دون الرغبة الملحة لفعله، مع معرفة عواقبه؟ اعتقادا بغفران الله للذنوب، وعفوه. جزاكم الله خيرا.
ما حكم فعل الذنب، والإصرار عليه، دون الرغبة الملحة لفعله، مع معرفة عواقبه؟ اعتقادا بغفران الله للذنوب، وعفوه. جزاكم الله خيرا.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فمن آثار الذنوب والمعاصي التي نبه عليها أهل العلم، ما يحدث من إلف المعصية، فيفعل الشخص المعصية، لا التذاذا بها، ولكن لأنه ألفها، واعتادها، فلا يطيق الفطام عنها، قال ابن القيم -رحمه الله-: ومنها: أن المعاصي تزرع أمثالها، وتولد بعضها بعضا؛ حتى يعز على العبد مفارقتها، والخروج منها، كما قال بعض السلف: إن من عقوبة السيئة، السيئة بعدها، وإن من ثواب الحسنة، الحسنة بعدها، فالعبد إذا عمل حسنة، قالت أخرى إلى جنبها: اعملني أيضا، فإذا عملها، قالت الثالثة كذلك، وهلم جرا، فتضاعف الربح، وتزايدت الحسنات. وكذلك كانت السيئات أيضا؛ حتى تصير الطاعات والمعاصي هيئات راسخة، وصفات لازمة، وملكات ثابتة، فلو عطل المحسن الطاعة، لضاقت عليه نفسه، وضاقت عليه الأرض بما رحبت، وأحس من نفسه بأنه كالحوت إذا فارق الماء؛ حتى يعاودها، فتسكن نفسه، وتقر عينه.
ولو عطل المجرم المعصية، وأقبل على الطاعة؛ لضاقت عليه نفسه، وضاق صدره، وأعيت عليه مذاهبه؛ حتى يعاودها، حتى إن كثيرا من الفساق ليواقع المعصية من غير لذة يجدها، ولا داعية إليها، إلا بما يجد من الألم بمفارقتها، كما صرح بذلك شيخ القوم الحسن بن هانئ حيث يقول:
وكأس شربت على لذة ... وأخرى تداويت منها بها.
وقال الآخر:
فكانت دوائي وهي دائي بعينه ... كما يتداوى شارب الخمر بالخمر.
ولا يزال العبد يعاني الطاعة، ويألفها، ويحبها، ويؤثرها؛ حتى يرسل الله سبحانه وتعالى برحمته عليه الملائكة، تؤزه إليها أزا، وتحرضه عليها، وتزعجه عن فراشه، ومجلسه إليها.
ولا يزال يألف المعاصي، ويحبها، ويؤثرها؛ حتى يرسل الله إليه الشياطين، فتؤزه إليها أزا.
فالأول قوى جند الطاعة بالمدد، فكانوا من أكبر أعوانه، وهذا قوى جند المعصية بالمدد، فكانوا أعوانا عليه. انتهى.
والواجب على المسلم أن يتوب إلى الله تعالى من الذنوب -صغيرها والكبير-، وأن يخشى سوء الخاتمة، إن هو أصر على المعاصي، فإنه لا يدري بم يختم له، وأن يتذكر عقاب الله، وشدة بأسه، وانتقامه ممن خالف أمره؛ فإنه سبحانه كما أنه غفور رحيم، فهو شديد العقاب.
والاتكال على عفو الله، والإصرار على المعاصي بهذه الدعوى، طريق المخذولين، فإن من أراد رحمة الله بحق، عرض نفسه لها، ووقف في مساقطها، ولم يخالف أمر الله بداعي التعلق برحمته، قال ابن القيم -رحمه الله-: فإنه سبحانه موصوف بالحكمة، والعزة، والانتقام، وشدة البطش، وعقوبة من يستحق العقوبة، فلو كان معول حسن الظن على مجرد صفاته وأسمائه؛ لاشترك في ذلك البر والفاجر، والمؤمن والكافر، ووليه وعدوه، فما ينفع المجرم أسماؤه وصفاته، وقد باء بسخطه، وغضبه، وتعرض للعنته، ووقع في محارمه، وانتهك حرماته، بل حسن الظن ينفع من تاب، وندم، وأقلع، وبدل السيئة بالحسنة، واستقبل بقية عمره بالخير، والطاعة، ثم أحسن الظن، فهذا هو حسن ظن، والأول غرور، والله المستعان.
ولا تستطل هذا الفصل، فإن الحاجة إليه شديدة لكل أحد يفرق بين حسن الظن بالله وبين الغرور به، قال الله تعالى: {إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم} [البقرة:218]، فجعل هؤلاء أهل الرجاء، لا البطالين، والفاسقين. قال تعالى: {ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم} [سورة النحل:110]، فأخبر سبحانه أنه بعد هذه الأشياء غفور رحيم لمن فعلها، فالعالم يضع الرجاء مواضعه، والجاهل المغتر يضعه في غير مواضعه.
وكثير من الجهال اعتمدوا على رحمة الله، وعفوه، وكرمه، وضيعوا أمره ونهيه، ونسوا أنه شديد العقاب، وأنه لا يرد بأسه عن القوم المجرمين.
ومن اعتمد على العفو مع الإصرار على الذنب، فهو كالمعاند، قال معروف: رجاؤك لرحمة من لا تطيعه من الخذلان، والحمق.
وقال بعض العلماء: من قطع عضوا منك في الدنيا بسرقة ثلاثة دراهم، لا تأمن أن تكون عقوبته في الآخرة على نحو هذا.
وقيل للحسن: نراك طويل البكاء، فقال: أخاف أن يطرحني في النار، ولا يبالي. وكان يقول: إن قوما ألهتهم أماني المغفرة؛ حتى خرجوا من الدنيا بغير توبة، يقول أحدهم: لأني أحسن الظن بربي، وكذب، لو أحسن الظن لأحسن العمل. انتهى. وله في الداء والدواء، تتمة ضافية، تحسن مراجعتها.
والمقصود أن ما ذكر إنما هو فعل الجهال المخذولين، وأن الواجب على المسلم أن يبادر الأجل بتوبة، يستدرك بها الفائت، ويمحو بها الفارط، ويتلافى بها الخلل، والتقصير.
والله أعلم.